صالحة علام - الجزيرة مباشر
ساعات قليلة تفصل تركيا عن أكثر انتخابات رئاسية وبرلمانية إثارة للجدل على المستويين المحلي والدولي، وهو ما يفسر هذه الزيادة المطردة في عمليات الاستقطاب والشحن الممنهج التي تقوم بها جبهة أحزاب المعارضة تحديدا، ضد كل من يخالفها الرأي أو التوجه، أو يساند منافسيها حتى ولو على الصعيد المعنوي.
جبهة المعارضة وظفت كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق أهدافها، والنيل ممن يقفون عقبة في طريق تحقيق حلم الوصول إلى السلطة، ولعل الكشف مؤخرا عن وجود شبكة ضخمة من الحسابات المزيفة، يصل عددها إلى 121 حسابا، يوضح مدى حجم التلاعب الذي يتم بعقول المواطنين، ومحاولات التأثير في قرارهم واختياراتهم الانتخابية، من خلال بث معلومات مغلوطة، وفيديوهات مزيفة، تروّج لأفكارهم، وتصوراتهم لمستقبل البلاد، وتُحسّن صورهم في أذهان المتابعين لهذه الحسابات المزيفة، الذين يبلغ عددهم 40 مليون مستخدم على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعادل نصف عدد الشعب التركي تقريبا.
هذه الحسابات يتم استخدامها من أجل رسم صورة مغايرة لحقيقة الوضع على الأرض، وتصدير رؤية مغايرة لما يحدث في الشارع التركي، في محاولة للتغطية على حملات الاستقالات التي تجتاح معظم الأحزاب المشاركة، بدءًا من الجيد، إلى المستقبل، مرورا بالتقدم والديمقراطية، وانتهاءً بالحزب الديمقراطي، وإبعاد الأنظار عنهم، من خلال السعي للنيل من إنجازات الحكومة بالسخرية منها أو التقليل من أهميتها، والتركيز بصفة خاصة على بث الفتن والكراهية بين مختلف شرائح الشعب، ونشر فيديوهات مزيفة تهدف إلى تشويه صورة العرب المقيمين في تركيا تحديدا، أيًّا كانت جنسياتهم، باعتبارهم أكثر الداعمين لاستمرار الرئيس أردوغان على سدة الحكم في البلاد.
خطاب الكراهية على ألسنة السياسيين ورؤساء الأحزاب مدة ليست بالقليلة، زرع بذور الكراهية في نفوس البسطاء من أبناء هذا الشعب ضد السوريين على وجه الخصوص، وانتقل مؤخرا إلى مواقع التواصل الاجتماعي المزيفة، مستهدفا العرب جميعا وليس السوريين فقط، لتبدأ المعارضة في قطف أولى ثمار بذورها المرة علنا وعلى الملأ، مع اقتراب اللحظات الحاسمة، التي ستُحدد مستقبل هذا البلد، سواء كان ارتفاعا وعلوا أو سقوطا مدويا.
فقد شاهدنا خلال الأيام الماضية عدة حوادث تسببت في حالة من القلق والخوف بين المقيمين العرب، فقد تم الاعتداء على طفل سوري لم يتخط عشرة أعوام من عمره، بسكب شاي مغلي على ظهره لمجرد أنه كان يلهو داخل خيمة انتخابية لحزب الشعب الجمهوري حاملا بيده علم حزب العدالة والتنمية.
ثم فوجئنا بعد ذلك بفيديو الاعتداء على مراسلة قناة الجزيرة مباشر، وهي تقوم بتأدية عملها، لرصد الفعاليات الانتخابية في منطقة تتجمع فيها الأحزاب المشاركة في الانتخابات، وكان خطؤها الوحيد الذي عوقبت عليه من جانب أعضاء في حزب الجيد أنها تحدثت باللغة العربية.
لم يلتفت أحد من الذين هاجموها إلى أنها كانت تمارس عملها، وتتحدث باللغة التي تبث بها قناتها، ولم يشفع لها كونها تحمل الجنسية التركية، أي أنها مواطنة تركية مثلهم تماما، فكان الاعتداء عليها، رغم رؤيتهم للميكرفون بيدها، ووجود كاميرا تقوم بتصويرها، لقد بلغ منهم الضيق منتهاه، ولم يعد لديهم القدرة حتى على تحمل سماع كلمات باللغة العربية.
الحديث بالعربية في وسائل النقل العام والشوارع والأماكن العامة أصبح يمثل خطرا حقيقيا على صاحبه خاصة في المناطق التي يتمركز فيها الكماليون والعلمانيون المعروفون بتوجهاتهم الأوربية، وهو ما لاحظه ورصده الكثير من المقيمين في أحياء المدن الكبرى التركية من مختلف الجنسيات العربية، الذين أصبحوا يتوخون الحذر في تعاملاتهم، وتحركاتهم، ويختارون بعناية بالغة أماكن وجودهم، خشية تعرضهم لما لا تحمد عقباه.
وهو الأمر الذي دفع العديد من الأتراك المعتدلين إلى تصوير فيديوهات، وبثها على منصة تويتر لتحذير العرب عموما، والسوريين على وجه الخصوص من الوجود في أماكن التجمعات الانتخابية، أو الحديث بالعربية حتى ولو على الهاتف، وهناك من ذهب إلى مطالبة العرب بضرورة الابتعاد عن المناطق التي يقطنها علمانيون أو المعروفة بتوجهات قاطنيها اليسارية.
وقد رأى آخرون أنه من الأفضل للعرب البقاء في منازلهم في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها الدولة التركية، خشية تعرضهم لاعتداءات من جانب هؤلاء الذين يُحملونهم مشاكل البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية، الرافضين لوجودهم، الذين يخوضون حربا شرسة من أجل ضمان خسارة الرئيس أردوغان في الانتخابات، وتولي كمال كيليجدار أوغلو منصب الرئاسة، وطالبوا العرب بالصبر والتحمل حتى تمر هذه الفترة على خير وسلام.
نسي هؤلاء العنصريون وهم يبثون كراهيتهم ضد العرب ولغتهم، أن حوالي 15% من سكان تركيا أصلا هم من أصول عربية، حيث تكتظ محافظات شانلي أورفة، ومرسين، وماردين، وعثمانية، وأضنة، وسيرت، وشيرناق، وبتلس، وباتمان، وإلازيغ، وديار بكر بسكان ذوي أصول عربية يتحدثون العربية إلى جانب التركية.
كما نسوا أن دينهم الإسلام وكتابهم القرآن نزل باللغة العربية التي يرفضون سماعها، أو السماح بالتحدث بها، وهو السبب ذاته الذي دفع أجداد هؤلاء العرب للقتال إلى جوار نظرائهم الأتراك في معاركهم التاريخية التي لا يزالون يحتفلون بانتصاراتهم فيها إلى اليوم، ولعل معركة جناق قلعة، وأسماء العرب الذين استشهدوا فيها المحفورة على شواهد قبورهم، خير دليل على هذا.
ونسي هؤلاء أو تناسوا أنه لولا العرب ووجودهم في تركيا سواء كانوا مقيمين أو سائحين وقت الأزمة الطاحنة التي مرت بها الليرة التركية، وفي أعقاب أزمة كورونا، لسقط اقتصاد البلاد سقوطا مدويا، ولأغلقت الكثير من المصانع والمحال التجارية، ولعانى عموم الأتراك الأمرين، من الغلاء والبطالة.
كما نسوا أن ما ينعمون به حاليا من رفاهية لم تكن موجودة في تسعينيات القرن الماضي، لم يأت بفضل الاتحاد الأوربي ولا بدعم أمريكي، وإنما جاء بفضل الاستثمارات العربية التي تدفقت من أجل مساندة الدولة التركية، والوقوف إلى جوارها في أزمتها.
وهم نفس الأشخاص الذين لا يستطيعون فهم أو استيعاب موقف العرب من تركيا، وليس لديهم القدرة على إدراك الأسباب الحقيقية وراء دعمهم عموما لاستمرار الرئيس أردوغان على رأس السلطة فيها، فالعرب أصبحوا يرون في تركيا نموذجا متكاملا للتنمية والتقدم والرقي، والقدرة على الحضور بقوة على الساحة السياسية العالمية، وفرض قضايا المسلمين على جداول أعمال المنظمات الأممية، ولهذا يريدون لها الاستمرار في تحقيق النجاحات والتفوق، خدمة لقضايا الإسلام والمسلمين، ولا يريدون لها الانهزام والسقوط كما هو حاصل في معظم بلادهم.
تركيا -يا سادة- أصبحت في نظر المواطنين العرب هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى، والحلم الذي يراود كل من يحب وطنه، ويرغب في رؤيته متقدما، ناجحا، حرا طليقا، له مكانته، وكلمته المسموعة في المحافل الدولية وعلى كافة الأصعدة، فلا تجعلوهم أول ضحايا انتخاباتكم، ولا تلوموهم على دعمهم لأردوغان، ولا تسرقوا منهم الحلم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس