ياسين أقطاي - الجزيرة نت
كالعادة في حالات الانتصار والفوز -كما هو الحال في فوز (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان- تبرز كل العوامل والقرارات الصحيحة والخطابات التي قادت الناجح إلى تحقيق هذا النجاح. وتبرز أيضا كل عيوب وذلات وأخطاء ونواقص الفاشلين، كل النجاحات والانتصارات بلا استثناء مآلها إلى هذه النتيجة.
ويمكننا تفسير هذا الأمر من ناحية علم النفس وعلم الاجتماع:
فاللاعب الناجح لا تظهر عيوبه وذلاته بعد الفوز، وذلك لسببين، أولهما أن هذه الأخطاء قد ظهرت بالفعل سابقاً وحرص منافسوه على إظهارها، إلا أن الناس لم يروها كبيرة بالشكل الذي يمنعهم من دعمه للفوز، ومن ناحية أخرى أن النجاح يغطي على هذه الأخطاء فلا يذكرها أحد.
ولكن أهم ما يميز من يستمرون في النجاح أنهم يكونون على وعي تام وكامل بعيوبهم وأخطائهم، ولا يخدعهم الفوز فيظنون أنهم كاملون أو منزهون عن الخطأ.
أحياناً في حالة الفرح والنشوة بالنصر، قد يظن المنتصر نفسه خاليا من العيوب لأنه انتصر، وفي تلك اللحظة تتمكن منه الغطرسة التي لا يمكن علاجها، ويخبرنا التاريخ أنها مع الوقت غالباً ما تتسبب في القضاء على أصحابها رغم الانتصارات التي حققوها.
إن أهم ما يميز الرئيس أردوغان أنه حتى الآن لم يقع في هذا الخطأ، فلم يمنعه النصر والنجاح من رؤية أخطائه، فقد كان بعد كل انتخابات يبدأ استعداداته للانتخابات التالية منذ اليوم الثاني لإعلان نتيجة الانتخابات، لكن لا أحد يحب أن يرى هذه الحقيقة، أن هذا الرجل يعمل لأجل بلده ليلاً ونهاراً دون كلل أو ملل.
وهناك من نظروا إلى المشهد السياسي في تركيا منذ عام أو عامين قبل الانتخابات، فكان كل ما رأوه هو حكومة مفلسة فاشلة ومدمِرة للبلاد وممتلئة بالفساد. ثم بدأ الترويج لهذه الصورة الكاذبة على مواقع التواصل وفي الأوساط الدولية، وتم الزيادة عليها وتضخيمها حتى أصبحت وكأنها حقيقة تامة، وليست أكذوبة اخترعها البعض وصدقوها وعملوا عليها ليلاً ونهاراً وروجوا لها إعلامياً حتى اتبعهم الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي ظناً منهم أنها حقيقة. لقد أظهرت نتيجة الانتخابات أنها مجرد وهم عاشوا فيه ولم يستفيقوا منه سوى على أصوات الفرح والنجاح وفوز أردوغان لولاية ثالثة.
وقد صوّرت المعارضة للناس على مواقع التواصل الاجتماعي أن يدهم ممتلئة بالنجاح هذه المرة، وأن الخسارة محققة لأردوغان، واعتمدوا على وهم الكاريزما والخطابات الحنجورية، وظنوا أنها وحدها تضمن النجاح. أنا هنا لا أقلل من سحر الكاريزما في السياسة إذ أنها عامل خطير وجاذب للملايين، لكن في الحقيقة الكاريزما لا تتعلق فقط بالطول والعمر وإبداء الصلة بالله وادعاء محبة الجماهير، وإنما هي شيء أكبر من ذلك بكثير.
ولم تعد الكاريزما في عالمنا الحالي كما كانت في الماضي هبة من الله فقط، يعطيها لمن يشاء، فيستخدمها في تكوين حركة جماهيرية حوله، وإنما أصبحت حركة تفاعلية وعلاقة معقدة جداً بين القادة والجماهير.
فهذا التغير الهائل في التركيبة الاجتماعية ووسائل التواصل وسرعة انتشار المعلومات، وازدياد الوعي جعل هذه الكاريزما وحدها ليست كافية، ربما يمكن استخدامها لمرة واحدة فقط في عالم الانتخابات، ولكن لكي تؤتي ثمارها بعد المرة الأولى لابد أن تُدعم بإنجازات وقوة ونجاحات حقيقية على الأرض وإلا سرعان ما سيتراجع المؤيدون ويرون صاحب الكاريزما بصورته الحقيقية الضئيلة وأنه مجرد ظاهرة صوتية لا وجود لها على الأرض. هذا ما آمن به أردوغان منذ اللحظة الأولى، نعم أتاه الله تلك الكاريزما وفصاحة الحديث لكن صاحبهما على طول الخط عمل دؤوب وإنجازات حقيقية ملموسة ساهمت في النجاح الذي أحرزه الآن.
ولو درسنا الأمر من ناحية أولئك الذين صوتوا لصالح كليجدار أوغلو، فربما هم لم يؤمنوا بالكاريزما التي حاول تصديرها لهم؛ إذ أنه عمل عليها بوسائل بائسة كمحاولات تشويه السمعة وتصدير خطاب الكراهية والعنف، لأنه ببساطة ليس له نجاح حقيقي يُذكر، وإنما نجاحه الوحيد هو أنه تمكن من أن يكون رئيس حزب الشعب الجمهوري بالخداع.
وقد أدرك الناس أن الكاريزما التي يتمتع بها ناخبو حزب الشعب الجمهوري يمكن أن تخرج من هذا النجاح، لكنها لن تكون أبداً قصة نجاح حقيقية للجمهور الأوسع والكتلة الانتخابية العريضة. وإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه فعلاً لم يتمكن من الفوز بأي انتخابات دخلها، فهذا يدعم الفكرة التي أحاول إيصالها وهي أن الناس قادرة على رؤية أوجه القصور الكبيرة لديه ولا تخدعهم كاريزمته المزعومة من قبله وقبل أنصاره.
وحتى إمام أوغلو، يافاش، داود أوغلو، وباباجان.. إلخ. كلهم حتى الآن لم يحققوا أي نجاح يمكن أن يمنحهم الكاريزما. وبصراحة؛ كانت النجاحات الوحيدة التي حققها آخر اسمين كان في العمل الذي قاموا به حين كانوا تحت قيادة أردوغان. وكان النجاح الوحيد لإمام أوغلو ويافاش هو فوزهما في الانتخابات البلدية، وهذا نجاح لا يصمد أمام ما حققه حزب العدالة والتنمية لمدة 25 عامًا على التوالي، وهذه هي الكاريزما الحقيقية التي أصبح الناس يرونها ويتوقعونها من قائدهم.
وحتى البلديات التي فازوا بها، لم ينجح عملهم فيها في تغذية هذه الكاريزما، بل إنها حقيقة تستهلك من جاذبيتهم وتكشف كل يوم عن المزيد من أخطائهم وخزيهم، وأوجه قصورهم، وإخفاقاتهم. وسيظهر أكثر -يوماً بعد يوم- بعد الهزيمة الجماعية التي لاقوها.
وتتغذى الكاريزما من النجاح والنصر والفوز والإنجازات، ويمكن أن تكون هذه النجاحات انتخابية، فضلاً عن تغذيتها بنجاحات الخروج من الأزمات بمهارة والتغلب على المحن؛ لأن هناك علاقة وثيقة جدًا بين "الأزمة" و"الكاريزما" على المستويين الاشتقاقي والحقيقي.
ومنذ خرج أردوغان من سقف الحكم المحلي إلى سدة حكم تركيا عام 2002، قام بالكثير الذي ساهم في صناعة هذه الكاريزما. في مقدمة ما قام به كان وقوفه الصارم في مواجهة الانقلابيين، وموقفه الشهير مع الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريس في قمة دافوس، الذي عُرف في تركيا بقضية "ون مينيت"، ونجاح الرئيس أردوغان في العبور بالبلاد إلى تعديل الدستور باستفتاء عام.
لقد كتبتُ قبل ذلك -عندما كان أردوغان مسجونًا حين كان رئيسًا للبلدية- مقالاً بعنوان "الكاريزما والثقافة الشعبية والفاشية" في مجلة "تذكير" ردًا على بعض الأوساط الفكرية التي شككت في جاذبيته؛ وأكدتُ فيه على أن كاريزما أردوغان ليست مثل أي كاريزما وأنها فريدة من نوعها؛ وذلك ضد التحذيرات التي تقال حول ما تسببت فيه القوى الكاريزمية في التاريخ.
وبعد فترة وجيزة من هذا المقال؛ تأسس حزب العدالة والتنمية. ومع الانتخابات التي دخلها عام 2002 -وعلى الرغم من حظره- إلا أنه صنع كاريزما من خلال هزيمة الخصوم السياسيين في تلك الفترة، وجميع الجهات التي سئمها الشعب. وفي صندوق الاقتراع؛ أصبح مرشحًا لإخراج تركيا من الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي كانت فيها.
وكان هذا الحدث بحد ذاته باباً "للخروج من الأزمة"؛ فلقد تميّز أردوغان كقائد حرر نفسه من هؤلاء الفاعلين السياسيين الذين كانوا سبب المشاكل والأزمة. في ذلك الوقت؛ كتبت أيضًا مقالًا بعنوان "الواقع المتطرف للكاريزما" في مجلة "بيريكيم" لاحقًا، تم تضمين مقالاتي هذه في كتابي المسمى "أزمان الكاريزما".
ولم يكن مجرد تجميل لأردوغان؛ بل كان تطبيقًا لعلم اجتماع الكاريزما على قصة أردوغان، مع بيانات العلوم السياسية وعلم الاجتماع البحت. بعد كل شيء، كان كل ما حدث ويحدث فصلاً من فصول القصة التي يسطرها أردوغان وبطلته دولتنا التركية، وما كانت الجولة الأخيرة إلا صراعاً حقيقياً حول فكرة أن تكون تركيا دولة عظيمة ذات سيادة أو أن تعود تابعة للغرب والخارج.
في كل فصل من هذه الفصول كان أردوغان يعيش صراعاً حقيقياً يدخله محارباً شرساً، يواجه فيه من يتآمرون ضده ويشوهونه ويقاتلونه ثم يخرج منه قائداً منتصراً.
ولا يمكن لعلم السياسة أو الاجتماع أو حتي أي عاقل بسيط أن يرى هذه الانتصارات المتكررة على أنها حدثت صدفة، فما بالك بالحالة الأخيرة التي توحدت فيها كل القوى السياسية ضده! كيف لهذا الانتصار أن يكون محض صدفة! لا يمكن بكل تأكيد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس