
ترك برس
تناول مقال للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، في صحيفة الشرق القطرية، الدور المحوري لنظام الأوقاف في بناء الحضارة الإسلامية، مبرزًا كيف شكّل الوقف أداة عملية لترسيخ قيم الكرم والعدالة والتكافل الاجتماعي، ووسيلة دائمة لنشر العلم ودعم الفقراء والضعفاء.
يستعرض الكاتب تطور الأوقاف عبر العصور الإسلامية المختلفة، من زمن النبي ﷺ إلى الدولة العثمانية، وكيف أسهمت في إنشاء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية.
كما يقارن بين رؤية الإسلام للكرم والعطاء المستمر، وبين النظرة الرأسمالية الغربية التي تربط قيمة الإنسان بثروته، مشيرًا إلى أن الوقف الإسلامي يسبق مفاهيم العمل الخيري الحديث من حيث الفلسفة والتطبيق، داعيًا إلى إحياء هذا الميراث الحضاري وتعزيزه في الواقع المعاصر.
وفيما يلي نص المقال:
لا تُقاس الحضارة بالتقدّم المادي أو التكنولوجي فحسب، بل بمدى ترسيخها لقيم الأخلاق والعدل والتنمية الاجتماعية وسعادة أهاليها. وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا متوازنًا يجمع بين الجمال المادي والروحي، مستندة إلى مبادئ التكافل والمشاركة لا إلى المصالح الفردية. وكان الوقف من أبرز تجليات هذا النموذج، حيث مثّل وسيلة فعّالة لترسيخ مفاهيم البر والإحسان والصدقة الجارية، عبر تخصيص الأموال والممتلكات لخدمة المجتمع ابتغاءً لرضا الله عز وجل. وقد نوّه القرآن الكريم في مواضع عديدة على أهمية الإنفاق والصدقة الجارية، حيث وعد الله من ينفقون في سبيله بأجر مضاعف، كما في قوله تعالى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة: 261) وأكد النبي ﷺ على استمرارية الأجر بعد الموت في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ومن هذا المنطلق، أصبح الوقف تجسيدًا حيًا لمفهوم العطاء المستمر، وعنصرًا أساسيًا في بناء الحضارة الإسلامية وقيمها الاجتماعية.
يركّز الإسلام على نشر الكرم والإحسان، خلافًا للرأسمالية الغربية التي تقيّم الإنسان بماله. في الحضارة الإسلامية، هناك ارتباط قوي بين الكرم وكرامة الإنسان. فصفة «كريم» تُطلق على الشخص الشريف والجواد. مفهوم الوقف، الذي يجمع بين جانبين من الصدقات الجارية المذكورة في الحديث النبوي وهما العلم والخير، وقد بدأ تطبيق هذا المفهوم منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال إنشاء المساجد، والمؤسسات العلمية، وحفر الآبار، وامتد ليشمل رعاية الفقراء والأيتام والعمل على دمجهم في المجتمع، حتى أصبح الوقف جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. وأسهم هذا النظام في الحفاظ على العلوم الإسلامية والقيم الأخلاقية، وتيسير حياة الناس وتعزيز روح التكافل في المجتمع.
لقد أسهمت الأوقاف في الحضارة الإسلامية بشكل كبير في تطور العلم والحكمة، وتحقيق الرفاه والتضامن الاجتماعي. ففي العهدين الأموي والعباسي، امتد دورها ليشمل مؤسسات التعليم كالمـدارس، والمكتبات، والمستشفيات، والخدمات العامة مثل الطرق والجسور. وقد تطور هذا النظام في عصور الأندلس والسلاجقة والمماليك والعثمانيين، ليصبح من الركائز الأساسية لفكرة الدولة الاجتماعية في الحضارة الإسلامية. وفي تراث الأندلس، أدّت الأوقاف دورًا واسعًا شمل التعليم والصحة، وبنية المدن التحتية، وبناء وصيانة قنوات المياه، ودعم المسافرين، ورعاية النساء والأيتام، في إطار منظومة متكاملة لخدمة المجتمع.
تُظهر وثائق الوقف العثمانية التي تعود إلى فترة التأسيس أن الهدف الأساسي من الأوقاف كان ابتغاء مرضاة الله وتقديم الدعم للمجتمع. ومع تأسيس نظارة الأوقاف الخيرية عام 1826، أُدخل نظام مركزي أكثر تنظيمًا على مؤسسة الوقف. وقد أدت الأوقاف العثمانية دورًا محوريًا في دعم قضايا الضمان الاجتماعي، من رعاية الفقراء والأيتام والمسافرين، إلى تقديم العون للنساء والمرضى، وانتشرت هذه الأوقاف بشكل واسع ليس فقط في إسطنبول، بل في مختلف الولايات العثمانية. كما ساهمت بدور كبير في تمويل مشاريع البنية التحتية للمدن، خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات العمرانية، من خلال مؤسسات كالسليمانية، والسليمية، والحسكة. وتشير السجلات الوقفية للسنوات 1908-1909 إلى وجود أكثر من 26 ألف وقف، كما أن ما يقارب 20% من الأراضي الزراعية كانت موقوفة لخدمة مصالح المجتمع.
في أواخر العهد العثماني، تم توحيد وزارة الشؤون الشرعية مع وزارة الأوقاف في مؤسسة واحدة. وفي الوقت الحاضر، تعتمد العديد من الدول الإسلامية هذا النموذج، إذ يُستخدم الاسمان معًا أو تتولى وزارة الأوقاف الإشراف على كل من الشؤون الدينية والأوقاف. ومع بروز قسوة الرأسمالية الغربية وإهمالها للفقراء والمستضعفين، بدأ مفهوم العمل الخيري (philanthropy) يزداد قوة وانتشارًا. فقد أنشأ بعض المليارديرات، مثل بيل غيتس، مؤسسات وقفية لإظهار التزامهم بالمسؤولية الاجتماعية في وجه التفاوت الشديد في الثروات، كما دفعت حركات العدالة العالمية كبرى الشركات نحو الانخراط في برامج خيرية أو تأسيس مؤسسات وقفية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الحضارة الإسلامية متقدمة في هذا المجال، من حيث الرؤية والتطبيق، بفضل نظام الوقف الذي شجّع منذ قرون على فعل الخير دون أن يقف عائقًا أمام تحقيق الثروة. ولولا هذه المؤسسات، لكانت الحياة في العديد من البلدان الإسلامية الفقيرة أكثر صعوبة ومعاناة. إذا يجب علينا المحافظة على هذا الميراث العظيم وتشجيعه في أوساط الأجيال القادمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!