د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرة أخرى خلال وجوده في قبرص التركية "الوطن الابن" في أول زيارة خارجية له بعد إعادة انتخابه أن الاعتراف التام بجمهورية شمال قبرص التركية، شرط أساسي "للعودة إلى المفاوضات بشأن جزيرة قبرص".
إذا كان الثنائي هاكان فيدان وزير الخارجية وإبراهيم قالن رئيس جهاز الاستخبارات يريدان دخول التاريخ السياسي التركي الحديث من بابه الواسع، فالملف القبرصي يشكل مفتاحا وفرصة لا تعوض أمامهما. والخطوة المنتظرة هي الوقوف خلف الرئيس رجب طيب أردوغان في تصريحاته الأخيرة حول الأزمة القبرصية وترجمة ما يقوله سياسيا واستراتيجيا لإخراج القبارصة الأتراك من ورطة مزمنة تجاوزت عقوداً.
نجح القبارصة اليونان في الترويج لبضاعتهم وكسب العطف والدعم الغربي، ووقوف بعض العواصم الإقليمية إلى جانبهم للمناكفة بتركيا في الإقليم ونتيجة حسابات المصالح. لكن ذلك كان على حساب القبارصة الأتراك في الشمال وتجاهل قضيتهم العادلة وحقوقهم التي لا علم لأوروبا بها، وهي التي ضمت جنوب الجزيرة عام 2004 إلى الاتحاد لموازنة النفوذ الأميركي والروسي هناك، ورغم عدم أخذ رأي القبارصة الأتراك وبغياب أي مستند قانوني وسياسي يمنحها هذا الحق.
أخطأت أنقرة قبل عقدين عندما تركت أوروبا تنفذ مخططها هذا مراهنة على مشروع كوفي أنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذي عارضه القبارصة اليونان ودعمه القبارصة الأتراك رغم وعود سياسية قدمتها أثينا والعواصم الأوروبية لتركيا أن هذه التسوية هي الخيار الممكن لإبقاء الجزيرة موحدة. دخلت قبرص اليونانية الاتحاد الأوروبي وهي تمثل كل الجزيرة بحسب الأوروبيين، وتأخر الأتراك في الرد السريع والحاسم رغم أن خياراتهم السياسية كانت كثيرة والأحجار الممكن تحريكها متنوعة. تعقد المشهد أكثر فأكثر. تركيا لم تدخل الاتحاد الأوروبي وأوروبا أخذت ما تريد واليونان تستقوي بالدعم الأوروبي الأميركي في قبرص وشرق المتوسط لمواجهة الصعود التركي السياسي والعسكري في المكان.
ينتظر القبارصة الأتراك منذ أكثر من 70 عاما حل مشكلتهم في الجزيرة. لاعبون كثر دخلوا على خط الأزمة، ولكن ليس من أجل المساعدة على حلها بل لتعقيدها أكثر فأكثر مستفيدين من دور شرق أوسطي أو متوسطي بسبب الموقع الجغرافي المهم للمكان. قبرص هي مدخل الشرق الأوسط البحري أولا. ثم مجاورة لسوريا وتركيا ولبنان ثانيا. بعد ذلك هناك الارتباط الاستراتيجي بأنقرة وأثينا على السواء. هذا إلى جانب قواعد عسكرية قديمة لإنكلترا، وشراكة القبارصة اليونان مع الاتحاد الأوروبي منذ عقدين. قبرص اليوم تشكل مركز تقاطع مصالح إقليمي جديد في خطط استخراج ونقل الطاقة إلى الغرب. والربط بين حركة التنقل التجاري والعسكري بحرا وساحة نفوذ أميركي – روسي متزايد بعد اكتشافات الطاقة والحرب في أوكرانيا وخطط التوسعة الأطلسية.
تحاول أوروبا عبر سياسة الترغيب والترهيب استخدام أكثر من وسيلة وأسلوب مع أتراك الجزيرة لإقناعهم بقبول الواقع الجديد. العرض هو أن يكونوا أقلية مقبولة من قبل القبارصة اليونان تضمن هي حقوقهم في دولة أوروبية تقطع علاقتها التاريخية والعرقية بتركيا، وتنهي عقود واتفاقيات لندن وزوريخ عام 1959 التي منحت أنقرة دور الطرف الضامن في توازنات الجزيرة والدفاع عن حقوق القبارصة في الشمال، وتسقط حقوقهم الدستورية التي قبلها جنوب الجزيرة عام 1960 ثم أرادوا التخلي عنها. يضغط الغرب على أنقرة منذ عامين لتوفير الحماية الأطلسية للسويد وفنلندا في مواجهة التهديد الروسي. القبارصة في شمال الجزيرة ينتظرون منذ عقود من يساعد على حل مشكلاتهم التي حوّلتها بعض العواصم الأوروبية إلى سلاح مواجهة مع تركيا، وفرصة تسجيل اختراق استراتيجي للاقتراب والتوغل في منطقة خرجوا منها قبل 7 عقود ويحاولون استردادها من جديد.
انطلاقا من:
- أن المساواة في السيادة والوضع الدولي المتساوي للقبارصة الأتراك، "هي حقوق مكتسبة لهم، وهذا أمر لا غنى عنه" بالنسبة لتركيا كما يقول أردوغان.
- وبسبب عدم دعم تنظيم مؤتمر إقليمي حول القضايا المتعلقة بشرق المتوسط الذي اقترحته أنقرة.
- وردا على خطوات قبرص اليونانية، منذ العام 2002، في دعوة الشركات الأوروبية للتنقيب عن الغاز أمام سواحل الجزيرة مما دفع أنقرة لتحريك سفن التنقيب التركية بحماية البوارج الحربية إلى سواحل شمال الجزيرة.
- وقرار تركيا دعم خطوة فتح أبواب منطقة مرعش السياحية المغلقة منذ 1974، بسبب الانسداد الحاصل في الملف.
- وبعد إعلان "جمهورية شمال قبرص التركية" عام 1983 من طرف واحد، دولة معترف بها من قبل تركيا.
- وقبول جمهورية شمال قبرص عضوا بصفة مراقب في منظمة الجمهوريات التركية.
- وكون المجموعة الأوروبية وسياستها القبرصية تتحمل المسؤولية الأولى في إيصال الأمور إلى هذا المستوى من التعقيد ومع ذلك فهي تحذر من "أي عمل يهدف إلى التسهيل أو المساعدة على الاعتراف الدولي بالكيان القبرصي التركي بأي شكل من الأشكال ويقوض بشكل خطير الجهود المبذولة لتهيئة بيئة مواتية لاستئناف المحادثات برعاية الأمم المتحدة".
فإن أنقرة تستعد لإطلاق حملة إقليمية ودولية واسعة من أجل تحريك الملف القبرصي نحو الحلحلة أو طرح البديل القائم على الاعتراف الدولي بجمهورية قبرص التركية.
انهارت آخر محادثات بين طرفي الصراع في الجزيرة بوساطة أممية قبل 6 أعوام من دون أية جهود سياسية ودبلوماسية جديدة. هذا الوضع منح أوروبا مزيدا من الفرص والوقت للضغط على سكان الشمال وتضييق الخناق على خياراتهم. الحل الفيدرالي يتراجع، فلماذا تقبل لفكوشة وأنقرة بأقل من الحل الكونفدرالي أو حل الدولتين؟
تستعد تركيا لسياسة خارجية جديدة مع فريق عمل وزاري ورئاسي يقوده أردوغان. الأزمة القبرصية لا بد أن يكون لها الحصة الكبيرة لحل مشكلة الشمال بحكم الترابط العرقي والتاريخي بين الطرفين، وكون القيادات السياسية التركية تتمسك بهذا الترابط.
حل الدولتين أو دولة كونفدرالية عادلة ومتوازنة هو التصور الممكن ربما. تعنت أوروبا برفض الاقتراحات التركية وفرض نفسها على الملف ودفع المجتمع الدولي نحو قبول الأمر الواقع الجديد، لن يحول دون تحرك تركي محتمل باتجاه توفير الاعتراف التدريجي بقبرص التركية وحقوقها، وهو ما يشير إليه أردوغان دائما من خلال حديثه عن الثوابت في سياسة تركيا الخارجية حيال الإخوة والشركاء.
انتقل أردوغان جوا من مطار لفكوشة إلى باكو العاصمة الأذربيجانية. هل هي رسالة اعتراف جديد بقبرص التركية؟ شعار شعب واحد في دولتين، قديم ومعروف لدى الأتراك والقبارصة في الشمال وسكان أذربيجان. لكن اليافطة التي كانت بانتظار أردوغان خلال زيارته للفكوشة تتحدث هذه المرة عن " شعب واحد في 3 دول".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس