ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر
الأرض التي نعيش عليها -كما هو معلوم- تدور بطريقة عجيبة، ليس فقط حول الشمس وليس فقط حول محورها، ولكنها أيضًا تدور حول البشر الذين يعيشون عليها مع حركتهم الدائمة حول محاور اهتماماتهم وأهدافهم الخاصة بأساليب شتى في رحلة ليس لها مسار واحد. ومع كل تلك التحركات تنكشف لنا حقائق عديدة، تخبرنا أن كل ذلك العالم ليس أبديًّا، وأنه لا يوجد شيء دائم في هذا العالم.
ومع نظرة سريعة إلى التطورات التكنولوجية الهائلة والتطورات العلمية في العالم، وتوقُّع أن يكون كل شيء أفضل بهذا التوجه، فإن للعالم وجهًا مختلفًا وجانبًا آخر ناتجًا عن تلك التطورات العديدة مع المزيد من الضعف والتراجع والجهل في مجالات أخرى، حيث عشنا جميعًا تجارب وأزمات جعلت كل مكتسبات الناس جميعًا لا مكان لها، وجعلت الناس فيها دون تمييز أو امتياز لأحد على الآخر. ورأينا كم كنا وحيدين رغم أننا نعيش في مجتمع كبير ولنا علاقات واسعة، وكم كنا فقراء رغم الثروات الكثيرة التي بين أيدينا، وكم كنا عاجزين رغم امتلاكنا القوة وأسبابها.
ماذا حدث عندما رأينا ذلك؟ إلى أي مدة استيقظ وعينا؟ وما الدروس التي استفدناها من هذه الأزمات؟ هل حقًّا رأينا الحقيقة أم ما زلنا منبهرين بالسراب؟ وكم من الوقت استمر هذا الوعي؟
الحقيقة أنه مع انحسار آثار هذه الأزمات تدريجيًّا من حياتنا -وإن لم تختف تمامًا- بدأنا نعود إلى الأسلوب المعتاد نفسه من الاستسلام والغطرسة والتسمم بقوة السلطة والثروة، وما زلنا نعتقد أن هذا العالم هو عالمنا نحن فقط، وما زلنا نعتقد أن الأشياء ملك لنا فحسب، ورجعنا إلى حيث كُنَّا دون أن نخرج بأي فائدة على المستوى العالمي من هذه التجارب التي ربما لن تتمكن الأجيال القادمة من الوقوف عليها.
ومع نظرة خاصة إلى تركيا، نجدها في خضم قفزة كبيرة إلى الأمام، وإنجاز كبير يليق بدورها الضروري الذي يفرضه حضورها التاريخي والجغرافي والثقافي مع ما يعنيه من مسؤولية عليها تجاه المنطقة المحيطة بها والعالم كله. ولقد كانت تركيا على قدر هذه المسؤولية بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، فقد مثلت الأمل والحلم والهدف الأعلى للمضطهدين في مناطق جغرافية واسعة وأعراق متنوعة، وهذا لا شك يمنحها قوة كبيرة إلى جانب المسؤولية التي تتحملها، فتركيا في السنوات الأخيرة هي الدولة الأكثر استقبالًا للضيوف من كل دول العالم وعلى اختلاف أهدافهم، ولا سيما القادمون من العالم الإسلامي وغيرهم من مناطق جغرافية أخرى بأغراض شتى على رأسها السياحة.
والسياحة -على سبيل المثال- لا تعني الوصول إلى الشواطئ فحسب، ولكنها الانجذاب إلى الثقافة والهوية والتقاليد والعلوم والمعرفة والصحة والسياسة والتجارة، فتركيا التي تنمو على طريقتها الفريدة صارت منطقة جذب لأصحاب تلك الاهتمامات. إننا نرى في تركيا هذه الأيام وجودًا لأناس شتى من جميع أنحاء العالم ومن كل اللغات، وهذا مؤشر واضح على زيادة جاذبية تركيا وقوتها وكفاءتها في إدارة أعمالها ومواردها البشرية المساهمة في البناء والانفتاح.
ولم تكتف تركيا بالاستقبال فحسب، بل أولت اهتمامًا كبيرًا بالوجود البشري النامي باعتباره موردًا فعالًا في البناء والنهضة، ولذلك تم تأسيس مكاتب عديدة في عدد كبير من دول العالم لدمج الموارد البشرية المدربة في الأعمال المشتركة التي تقوم بها مع تلك الدول، وقد أسهم ذلك في التواصل مع غالبية المثقفين والمتعلمين ذوي الخبرات المتنوعة في الدنيا لا سيما العالم الإسلامي.
فالحقيقة أنه على الحضارات المتنامية والنامية باستمرار في العالم أن تجد لنفسها طريقًا لاستيعاب التنوع الثقافي في ظل هوية عُليا أكبر ودائرة علاقات أوسع. وفي الواقع من المهم جدًّا لتركيا -مؤسساتٍ وشعبًا- أن تطور ثقافة وعقلية تتماشى مع هذه التطورات المتزايدة.
ولحسن الحظ، فإن هذا الوعي والانسجام موجود لدى شرائح كبيرة وقطاعات واسعة جدًّا من المجتمع التركي، ولكن مع الأسف نجد بعض تلك الشرائح في عجلة من أمرها فيما يتعلق بهذا التطور، فتتسبب في منعه بدلًا من مواكبة الانفتاح المطلوب لتحقيق النهضة.
وهؤلاء عندما يفعلون ذلك يرفعون اسم القومية التركية، ومع ذلك تجد أنهم بتصرفاتهم ومواقفهم وأفكارهم وعقلياتهم هذه لم يحاولوا سوى ضغط الشعب التركي وحبسه داخل أسوار سجن القومية، فهؤلاء الأشخاص ليس لديهم وعي بالواقع، ولا علاقة لهم بيونس إمره أو حاجي بكتاش أو حاجي بيرم، ويعتقدون أن تصرفاتهم الاستفزازية على أنقاض القلوب المحطمة هي عمل بطولي يفيد المجتمع التركي.
رغم أن العمل على نشر مفاهيم التعددية الثقافية وتطوير التعليم في شتى المجالات الدينية والدنيوية من المتوقع أن يؤدي إلى زيادة تطوير الشعور بالتسامح لدى الناس والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن يخفف من مشاعر الجهل والعنصرية وكراهية الناس دون المساس بالإبداع الفكري والخصوصيات الحضارية لصالح التقارب مع الآخر لإصلاح المستقبل المشترك.
وفي الوقت الذي تمر فيه تركيا بهذا الانفتاح العظيم والتقارب المثمر مع الآخر، فإن من أكبر المفارقات والتناقضات التي يشهدها العالم اليوم أن أولئك الذين يصورون العنصرية المتعصبة على أنها بناء ونهضة، هم أشخاص مثقفون ومتعلمون جيدًا، إلا أن موقفهم هذا لا يمثل تركيا؛ فتركيا -أولًا وقبل كل شيء- دولة مسلمة ليس لديها عنصرية ولا كراهية للأجانب في الداخل والخارج، وتدرك دورها ومسؤوليتها تجاه أمتها وتجاه العالم، وخاصة المظلومين الذين يعانون الظلم والتشريد في الشرق والغرب، فمقاومة الظلم لا يحددها انتماء إلى دين أو عِرق أو مذهب، بل تنبع من النفوس الساعية إلى الحق والحرية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس