ترك برس
وقفت تركيا على أعتاب منعطف تاريخي عشية انتخابات 14 و28 مايو/أيار (البرلمانية والرئاسية)، حيث حددت هذه الانتخابات المصير السياسي المقبل للبلاد. وقد شهدنا أن التصويت جرى على رؤيتين عالميتين مختلفتين ونموذجين متناقضين تماماً. وفي نهاية المطاف، اتخذ الشعب التركي قراره، وفاز تحالف الجمهور الحاكم بأغلبية مقاعد البرلمان، بالإضافة إلى حسمه الانتخابات الرئاسية لمصلحة أردوغان. فكانت النتائج مفاجئة ومعاكسة لتوقعات ورغبات العديد من الدول الغربية. وبناءً على ذلك، يحكم أردوغان تركيا لمدة 5 سنوات أخرى.
هذه المرحلة الجديدة، التي وصفها أردوغان بأنها بداية انطلاق بناء “قرن تركيا”، ستكون لها تداعياتها على كل من تركيا والسياسة الدولية والإقليمية.
وفي الحقيقة تركيا اليوم في موقف تجاوزت فيه كونها قوة إقليمية، حيث باتت أنقرة تسعى لأن تكون لاعباً عالمياً لديها مطالباتها. فهناك قضايا دولية عديدة وضعت تركيا في موقف اللاعب العالمي الفعال والمهم، كالحرب الأوكرانية وبناء مؤسسات الدولة في الصومال، والنزاعات الداخلية في ليبيا، بالإضافة إلى صراع القوى شرق البحر الأبيض المتوسط. بجانب سياسات تركيا الخارجية تجاه العراق وسوريا، والتي ستبقى تُشكل ديناميكيات أساسية للسياسة الإقليمية والتركية على حد سواء.
المرحلة الجديدة وديمومة السياسة الخارجية
يمكن فهم واقع المرحلة الجديدة وفكّ رموز السياسة الخارجية التركية الحالية تحت قيادة أردوغان، وعلى وجه الخصوص شرح كيفية تبلورها تجاه سوريا والعراق، من خلال قراءة تشكيلة الحكومة الرئاسية الجديدة؛ إذ تتكشف بدايته من خلال تعيين رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان الذي تحول اسمه إلى أسطورة في منصب وزير الخارجية بالحكومة الجديدة.
نحن نتحدث عن اسم شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات لسنوات عديدة، وعمل على تطوير المؤسسة الاستخباراتية بشكل فعال وكبير من ناحية الإمكانيات التقنية والعمليات الميدانية، والذي كان يصدر التوجيهات كصاحب كلمة في كافة الأنشطة العسكرية والاستخباراتية والسياسية التركية، وخاصة في مناطق الصراع بالعراق وسوريا وليبيا.
انطلاقاً من ذلك، فإن كون هاكان أصبح رئيس السياسة الخارجية التركية، فهذا مؤشر على ديمومة هذه السياسة تجاه العراق وسوريا؛ لأن مزج هاكان فيدان بين الدبلوماسية والتطورات الميدانية سيحقق مكاسب كبيرة لتركيا.
إذ ستتحول سياسته هذه وتحركاته إلى مكاسب نافعة، خاصة بالنسبة إلى العراق وسوريا، اللتين تقعان في منطقة جغرافية لا تنقطع فيها الصراعات العسكرية، حيث تدور فيها الحروب بالوكالة، كما أن إجراءات السياسة الخارجية بالتنسيق والاتصال مع الميدان سيعزز موقف تركيا.
وبالفعل وبسرعة بدأت الزيارة الأخيرة التي أجراها هاكان فيدان إلى بغداد وأربيل تؤتي ثمارها في هذا الخصوص، حيث عقد لقاءات رفيعة المستوى التقى خلالها كبار المسؤولين الذين كانت تربطه بهم علاقات وثيقة مسبقاً.
كيف ستتشكل السياسة التركية في العراق وسوريا؟
تولي تركيا أهمية كبيرة تجاه العراق وسوريا، لا سيما أنهما جارتان تقعان على حدودها الجنوبية. فأنقرة تأخذ في عين الاعتبار جانب أمنها القومي وحيثياتها الاقتصادية، بالإضافة إلى العمق التاريخي الذي يربطها مع كلا البلدين.
ولكن في ظل الحكومات المتغيرة في تركيا والديناميكيات الداخلية لكلتا الدولتين (العراق وسوريا) أصبحت العلاقات مع الجارتين بين مد وجزر، خاصة في السنوات الأخيرة.
فلقد انحسر دور السلطات في العراق وسوريا نتيجة تداعيات حربي الخليج والاحتلال الأمريكي للعراق، بالإضافة إلى (ثورات) الربيع العربي واندلاع الحرب الأهلية السورية، فظهرت على الساحة جهات فاعلة مسلحة غير حكومية، وبدأت التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها “بي كي كي” و”داعش” في فرض سيطرتها على المنطقة.
ونتيجة لذلك، بدأت هاتان الدولتان في تصدير الإرهاب واللاجئين إلى تركيا؛ مما ضغط على تركيا لإعادة تشكيل علاقاتها وسياساتها مع البلدين وفقاً لهذه المتغيرات والوقائع الجديدة.
لقد تحولت الثورة السورية، التي ما زالت مستمرة منذ انطلاق الربيع العربي، إلى حروب بالوكالة، فأصبحت الأرض السورية ساحة للتنافس والصراع للقوى الإقليمية والعالمية.
من جهة أخرى، القضايا التي باتت تمثل التحدي الأكبر بالنسبة إلى تركيا هي قضية اللاجئين، بالإضافة إلى محاولات إنشاء دولة إرهابية خاضعة لسيطرة الـ”واي بي جي” YPG الذراع السورية لـ “بي كي كي” PKK تحت حماية أمريكية. ولذلك نجد تركيا على الدوام تطالب بضرورة إيجاد حل سياسي للصراعات الداخلية في سوريا.
ونتيجة لذلك ما زالت المفاوضات مع حكومة دمشق مستمرة بوساطة روسية، ولكن يبدو أنه من غير الممكن إحراز أي تقدم ملحوظ في الوقت الراهن. من جهة أخرى، يمثل التعاون بين الولايات المتحدة وتنظيم “بي كي كي” مشكلة كبيرة.
وتسعى تركيا للاستفادة من التنافس الروسي الأمريكي الإيراني، وفي الوقت نفسه القضاء على كافة التهديدات التي تشكل خطراً على أمنها القومي. لذلك ستستمر تركيا في استخدام كل من الدبلوماسية وقوة الردع العسكرية بنشاط أكبر.
أما بالنسبة للعراق، فقد تشكلت سياسة تركيا تجاهها انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على الأمن القومي التركي، ولا سيما بعد نشوب حرب الخليج والاحتلال الأمريكي.
على وجه الخصوص، أثارت المطالبة بالاستقلال والانفصال عن العراق في المناطق الشمالية من البلاد التي يسيطر عليها الأكراد قلق أنقرة بشأن أمنها القومي، ولكن مع تولي حزب العدالة والتنمية التركي السلطة، نجح صناع القرار في السياسة التركية من إقامة علاقات مع المجموعات الكردية على أساس أكثر عقلانية.
وجرى تعاون وثيق بين تركيا وحكومة إقليم كردستان العراق والحزب الديمقراطي الكردستاني على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري خلال السنوات الأخيرة الماضية على وجه الخصوص.
وبكل تأكيد يعد وجود تنظيم “بي كي كي” الذي يشكل تهديداً مشتركاً لتركيا وإقليم كردستان العراق، أحد العوامل الحاسمة لإجراء التعاون بين الطرفين، فضلاً عن المصالح الاقتصادية المشتركة. كما يجري تصدير النفط من الإقليم إلى العالم عبر ميناء جيهان التركي.
يعمل تنظيم “بي كي كي” داخل مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) وعلى وجه الخصوص في زاب وميتينا وغارا- يطلق عليها التنظيم اسم “مناطق الدفاع الإعلامي”، ويحاول التنظيم أيضاً التحصن بمنطقة سنجار وإبقاءها تحت سيطرته، وهذا يزعج إدارة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى حد كبير.
وفي الوقت نفسه، تؤدي محاولات تنظيم “بي كي كي” لتصفية العناصر الكردية المقربة من الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا إلى تشكيل شراكة بين تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني ضد التنظيم.
وانطلاقاً من مبدأ العقيدة الأمنية الجديدة التي جرى تطويرها بعد انقلاب 15يوليو/تموز 2016، أطلقت تركيا عمليات عسكرية كبيرة على الحدود مع العراق، مماثلة للعمليات التي أطلقتها في سوريا، وخلافاً لما كان عليه الحال في الماضي، نفذ الجيش التركي عملياته بدعم لوجستي واستخباراتي من قِبل الحزب الديمقراطي الكردستاني بطريقة يضمن بها سيطرة الأخير على المناطق التي يتواجد فيها تنظيم “بي كي كي”.
وستشهد الفترة القادمة إطلاق عمليات عسكرية مماثلة في مناطق أخرى، وعلى وجه الخصوص في منطقتي جبل قنديل وسنجار.
من جهة أخرى، تركيا منزعجة بشدة من علاقة الاتحاد الوطني الكردستاني (KYB) مع تنظيم “بي كي كي” وعلى وجه الخصوص العلاقات بين عناصر الـYPG “وحدات حماية الشعب” وPYD “حزب الاتحاد الديمقراطي” مع رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافال طالباني، ومنزعجة أيضاً من المعلومات التي تشير إلى أن تنظيم واي بي جي يحاول أن يكون طرفاً فاعلاً في التوازنات العراقية تحت رعاية الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى عمليات الاستهداف المباشر التي تنفذها تركيا (ضد عناصر تنظيم بي كي كي) لمنع تلك الأنشطة، نفذت أيضاً عقوبات مختلفة على الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنها فرض حظر على الرحلات من مطار السليمانية وإليه. وتشير التوقعات إلى زيادة تركيا فرض العقوبات والضغوطات على الاتحاد الوطني الكردستاني في الفترة المقبلة.
وبشكل عام، يعد استقرار العراق من أولويات سياسة تركيا تجاه هذا البلد، فالاستقرار السياسي مطلوب بطريقة يضمن فيها الحفاظ على التوازنات العرقية والمذهبية.
ولكن في الوقت نفسه رفضت تركيا مقاربات السلطة التي تركز على الشيعة التي فُرضت بعد الاحتلال الأمريكي، وأعربت عن قلقها بشأن النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة. كما عارضت استبعاد السنَّة من النظام السياسي.
وخلقت هذه الممارسات الخاطئة مناخاً لإنتاج أرضية اجتماعية أدت في النهاية إلى ظهور تنظيمات إرهابية كتنظيمي القاعدة وداعش.
ونتيجة لذلك، تسعى تركيا لتقديم الدعم للمكون السني لينخرط في النظام السياسي، وتسعى إلى إعادة إعمار المدن السنية كالموصل، التي دُمرت خلال الحرب على داعش.
وتوضح خطوة إعادة توحيد البنية العسكرية المركزية في العراق أن دور قوة مسلحة ثانية كالحشد الشعبي لا ينبغي أن يستمر.
كما تسعى الجهات الفاعلة الشيعية كـ”مقتدى الصدر” (الذي يتزعم التيار الصدري) لإقامة علاقات جيدة مع تركيا، ولا سيما أنه يحاول كسر النفوذ الإيراني على بغداد. وفي نهاية المطاف، فإن سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه وتحرره من نفوذ القوى الأجنبية ينصب في مصلحة الأمن القومي التركي، ويعود بالفائدة على أمن إمدادات الطاقة والمصالح الاقتصادية. ومن المتوقع أن يستمر النمط الحالي للسياسة التركية في المرحلة الجديدة المقبلة من أجل هذا الأمر.
خلاصة القول
بعد المحاولة الانقلابية في 15 يوليو/تموز 2016، بدأت تركيا بالعمل على تحقيق مصالحها من خلال سياستها الخارجية القائمة على مبدأ التوازن بين العالمين الغربي والشرقي، في ظل قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، كما عملت على ترسيخ قوتها العسكرية والأمنية. وتولي تركيا اهتمامها باجتثاث جذور التهديدات التي تواجهها انطلاقاً من هذه الرؤية الجديدة التي تبناها أردوغان. وقد تمثل ذلك في الحملات الجيوسياسية التي قادتها تركيا في إطار سياستها تجاه العراق وسوريا على مدى السنوات الأخيرة، حيث تستمر تركيا في تعزيز وجودها العسكري ضمن حدود هذين البلدين الجارين عبر عملياتها العسكرية التي تهدف إلى تأمين شريطها الحدودي، مع إيلاء الأهمية للحفاظ على وحدة تراب كلا البلدين، وتبدي رغبتها في إعادة ترسيخ السلطات فيهما، وتعرب عن أهمية وجود حكومة تحافظ على التوازنات العرقية والمذهبية، ولا تستجيب للتدخلات الخارجية فيهما؛ مؤكدة ضرورة تصفية الكيانات المسلحة غير التابعة للدولة.
إن تركيا في ولاية أردوغان الجديدة ستستمر في اتباع مثل هذه السياسات، من خلال حكومة أقوى، فهي تعمل على إعادة المنطقة إلى سابق عهدها في الوقت الذي تسعى فيه إلى تعزيز قوتها العسكرية الرادعة من أجل مصالحها وأمنها القومي.
**تقرير تحليلي نشره مركز سيتا التركي للدراسات والأبحاث
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!