عامر عبد المنعم - الجزيرة مباشر
حققت أذربيجان انتصارا كبيرا في معركتها لتحرير أراضيها المحتلة من الأرمن، وسيطرت على عشرات المواقع بدون مقاومة تذكر، وبعد 24 ساعة فقط من الهجوم العسكري على ناغورني كاراباخ أعلنت المليشيا الأرمينية الاستسلام وإلقاء السلاح، وقبلت الدخول في مفاوضات مع السلطات الأذربيجانية لبحث إجراءات تسليمها المنطقة وفرض سيادتها على الإقليم.
لم يكن قرار استسلام الأرمن سهلا، ولكن القوة العسكرية لأذربيجان التي تفوقت على الدعم العسكري الروسي والغربي فرضت الواقع الجديد. وقد تخلت أرمينيا عن دعم الانفصاليين في الإقليم حتى لا تتكرر هزيمتها التي جرت عام 2020 وعجزها عن مواجهة الأسلحة التركية المتطورة خاصة الطائرات المسيّرة بدون طيار التي أعطت أذربيجان التفوق في الأرض والجو.
كشفت المعركة أن أذربيجان صاحبة الأرض تقاتل بأسلحة القرن الجديد الذكية والفعالة، في حين يقاتل الأرمن المحتلون بأسلحة القرن الماضي، واستطاع الرئيس إلهام علييف أن يفرض كلمته ويحول الهزيمة التي وقعت منذ ثلاثين عاما وخسارة خمس أراضي أذربيجان إلى نصر كبير، وتغيير جيوساسي مذهل في فترة قصيرة تؤكد بروز قوة العالم التركي المتصاعدة.
عندما زرع الروس أرمينيا في منطقة القوقاز في القرن التاسع عشر ساندتهم الدول الغربية لإقامة دولة حاجزة، تفصل تركيا عن الشعوب التركية في منطقة آسيا الوسطى وحتى حدود الصين، وساعدوا على تهجير المسلمين من كاراباخ لتوسيع الدولة الأرمينية، ولم يبالوا بالسكان الذين تم قتلهم في مذابح دموية بشعة وطردهم من مدنهم وقراهم، لتفريغ الأرض للأرمن لإقامة دولتهم الطائفية على أرض مغتصبة.
من جهتهم قام الأرمن بالتوسع مستغلين الحماية الروسية خاصة في ظل الاتحاد السوفيتي الذي استخدمهم للإجهاز على الدولة العثمانية، فتمددوا جنوبا حتى حدود إيران، واحتلوا منطقة زنغيزور فمزقوا أرض الأذربيجانيين في مشهد عجيب لا نراه في أي مكان آخر في العالم؛ إذ فصلوا إقليم ناختشيفان عن أذربيجان عام 1920 بحملات التطهير العرقي، ولم يكتفوا بذلك بل احتلوا في بداية تسعينيات القرن الماضي نحو 20% من أراضي أذربيجان المحيطة بكارباخ.
تجرّع الأذربيجانيون الهزيمة؛ فلم يكن لديهم قدرة على استرداد أرضهم، ولكن بعد التعاون الاستراتيجي مع الأتراك وإحياء رابطة الشعوب التركية حدثت نقلة كبيرة انعكست على القوات الأذرية التي حققت في 44 يوما في حرب 2020 ما عجزت عن تحقيقه منذ قرنين، وتم سحق جيش الأرمن الذي لولا تدخل الروس وفرض اتفاق وقف إطلاق النار لكان قد أُبيد.
قدمت تركيا كل الدعم لأذربيجان في إطار جهودها لإحياء العالم التركي الممتد من الصين شرقا حتى الأناضول. وقد تكللت تلك الجهود بتأسيس “منظمة الدول التركية” التي بدأت بما يسمى “المجلس التركي” عام 2009، وتضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، وانضمت إليها المجر وتركمانستان وجمهورية شمال قبرص التركية بصفة “عضو مراقب”، وقد انضمت المجر -وهي دولة أوربية- بسبب روابط تاريخية وثقافية وعلاقات سياسية بالأتراك منذ عهد الدولة العثمانية.
النصر الأذربيجاني بجانب نتائجه المبهرة واسترداد الأرض والكرامة، يصب في صالح تركيا والرابطة التركية الجديدة، التي تفرض وجودها يوما بعد يوم بقوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتعمل تركيا الآن على تشييد “الممر الأوسط” الذي يربط آسيا بأوروبا ويمتد من الصين وحتى تركيا، ورغم أن الممر يخدم “الحزام والطريق” الصيني فإن الصين تشعر بالقلق خشية من إحياء المشاعر القومية لسكان تركستان الشرقية وارتباطهم بالشعوب التركية، ولكن ليس أمام الصينيين شيء ليفعلوه.
أيضا تشعر إيران بقلق من قوة أذربيجان وصعود الرابطة التركية لوجود أكبر أقلية أذرية في الشمال تمثل 20% من سكان الدولة الإيرانية، ورغم أن أكثر من نصف سكان أذربيجان شيعة فإن طهران تساند أرمينيا، وهذه القضية تثير الجدل بين الأذريين بشمال وجنوب نهر آراس الذي يفصل بين أذربيجان وإيران حول انحياز الإيرانيين للاحتلال الأرميني والتخلي عن الأذريين المتفقين معهم في المذهب!
بعد الإنجازات التي حققها الرئيس الأذري علييف واستعادة السيطرة على كاراباخ يدور التفاوض الآن بين باكو ويوريفان حول إنشاء ممر زنغيزور، للربط بين أذربيجان وإقليم ناختشيفان، كما أنه سيكون طريق الاتصال الذي يربط تركيا بدول العالم التركي، وهو أقرب طريق يربط آسيا بأوربا، وقد حصل أردوغان وعلييف على موافقة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إلا أن الوضع الداخلي يجعله يتقدم ببطء خوفا من المعارضة التي تتهمه بالخيانة.
لكن العقبة الكبرى التي تعرقل البدء في تنفيذ الممر حتى الآن ليست أرمينيا وإنما الموقف الإيراني الرافض، لكن المشروع يحظى بدعم دولي لأنه أقصر طريق يربط بين الصين وأوروبا كما أنه سيساهم في تدفق النفط والغاز من بحر قزوين وتعويض خسائر الأوروبيين في حرب أوكرانيا، التي تسببت في قطع الطريق القادم من روسيا ومن غير المنظور أن يعود كما كان.
تحاول الدبلوماسية التركية إقناع الإيرانيين واستخدام كل الأوراق للضغط على طهران لتقبل الأمر الواقع وتتراجع عن حالة العداء غير المبرر التي تتعارض والمصالح الاقتصادية لدول المنطقة، ومع أن موقف إيران ضعيف لأن الممر ليس في أرضها فإن الإيرانيين تلقوا صدمة مع تغير الموقف الروسي في الملف لصالح أذربيجان، بعد محاولة الأرمن الارتماء في حضن أمريكا والانقلاب على الروس رغم كل ما بذلوه.
تغير موقف بوتين بعد أن رأى أن يريفان لم تحترم الدور الروسي في حمايتها، وقررت التحالف مع واشنطن، وقامت بتحركات ضد روسيا تُوّجت بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية في أرمينيا خلال فترة ما بين 11 و20 سبتمبر، وهو ما اعتبرته روسيا استدعاءً للجيش الأمريكي إلى داخل النفوذ الروسي في القوقاز، ووصفته الخارجية الروسية بأنه خطوة “غير ودية” من حليفتها.
ومما ساهم في غضب موسكو قيام أرمينيا بإرسال مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، والإعلان عن استعداد البرلمان الأرميني لمناقشة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للتصديق عليه، الذي يلزم الأرمن باعتقال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إذا زار الأراضي الأرمينية، كما صدرت عن القادة الأرمن تصريحات رسمية تتهم الروس بالتخلي عنهم وتدعو إلى استبدال الأمريكيين والأوروبيين بهم.
هذا الخطأ الأرميني كان مغامرة غير محسوبة العواقب نتجت عنها موافقة الروس على الهجوم الأذري الأخير، وفرض سيادة أذربيجان على الإقليم لقطع الطريق على أي تفكير في استدعاء قوات غربية في كراباخ بمبررات حفظ السلام، وللتخفف من الأعباء العسكرية التي يتحملها الروس دفاعا عن حماية مليشيا أرمنية متطرفة خارجة عن السيطرة، تريد القتال إلى الأبد في معركة خاسرة.
يضغط الرئيس الأذري المنتصر علييف للإسراع في تنفيذ ممر زنغيزور لتحقيق الوحدة الأذربيجانية، واستعادة الاتصال بالإقليم المحاصر، وفي المقابل ليس أمام الأرمن غير القبول بالأمر الواقع، والتجاوب مع الأيدي الممدودة بالسلام، واقتناص الفرصة، وتغيير الاتجاه وفتح صفحة جديدة مع الجيران، قائمة على التعاون والمصالح.
من جهته يقف الرئيس التركي بكل قوة بجانب أذربيجان، ويدعو الأرمن إلى التعاون والتخلي عن روح التعصب التي لم تحقق لهم غير الخسائر، كما أن الرهان على الدول الكبرى ثبت فشله ولم يحقق لهم الحماية، ويبدو أن ما يدعو إليه أردوغان يجد صدى في الناحية الأخرى خاصة مع الهزيمة الثقيلة التي فرضت واقعا جديدا في القوقاز لصالح التكتل التركي الذي أصبح قوة لا يستهان بها في هذه المنطقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس