ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر
هل رأيت ذلك الشاب الذي فقد عشرين شخصًا من عائلته في غزة وهو يبكي وينتحب ويصرخ “أين المسلمون؟”. ولعلك مثلي ومثل كل من شاهد ذلك، ظننت في البداية أنه يطلب المساعدات لمن خرج حيًّا من تحت القصف الصهيوني. نعم، في الواقع، هذا هو أول ما يتبادر إلى الذهن عن الشخص الذي يصرخ من هذا المشهد، ولكن بعد جملتين فقط تدرك أنه لا يطلب المساعدة ولا يبكي على نفسه، بل يبكي على الأمة التي لا تستطيع أن تأتي لمساعدته ولا تفكر حتى في المجيء لمساعدته، فيقول ” أنا لا أبكي على نفسي، أنا لا أبكي على أهل غزة، أنا أبكي على صمت الأمة وعجزها حين ضاعت كرامتها وقُتلت هنا. فالموت حق، وعلى كل حال سنموت، إن عاجلًا أو آجلًا سنموت في نهاية المطاف”.
وعلى مر التاريخ ظهرت أقوال تثبيط وتقليل من شأن الدفاع عن الدين والوطن، ومن ذلك ما قاله العقلانيون أصحاب الأفكار الإستراتيجية الذين كانوا يظنون أنهم على دراية ووعي بأمور الحرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم {ٱلَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ…} أي “لو أنهم استمعوا إلينا ولم يدخلوا هذه الحرب التي لن يجنوا منها سوى الموت، لكانوا على قيد الحياة الآن”. فيأتي الجواب القرآني: {قُل لَوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} و{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} وبهذا يضع القرآن بين أيديهم الحقيقةَ الأكثر واقعية، موضحًا أن النضال من أجل الحرية والشرف والكرامة هو صراع قد ينتهي بالموت ولا ضرر في ذلك. وبالطبع فإن السائرين في هذا الطريق لا يرون في الموت في هذا الطريق موتًا، على العكس من ذلك، فإن كل سائر في طريق النضال يرى أن التراجع والفرار من هذا الطريق هو مكمن الخطر والوهَن الذي يكون في الوقوع في براثن الخوف والجُبن والحبس في سجن من الجحيم. إنها الحقيقة نفسها، فما يراه البعض موتًا هو استشهاد وشهادة تشهد على حال هؤلاء الناس، وبالطبع حال كل من يعيش في هذا العالم، فالاستشهاد هو الموت الذي يُحيي الإنسان والإنسانية.
وبهذا المنطق الإيماني الواعي، يرى الشاب الشجاع من غزة الزنزانة التي تعيشها الأمة، من نافذة تلك الشهادة التي تحيي الشهيد، كما يرى الخطر المحدق بالأمة ويبكي عليه، فما يريده ليس المساعدة التي ستبقيه على قيد الحياة في هذا العالم لبضعة أيام أو سنوات قلَّت أو كثُرت. ومن حيث يقف هذا الشجاع، يرى الموقف المؤسف لأصحاب تلك العقول الإستراتيجية، إنه يراهم ويبكي على بؤسهم وانغماسهم في عالم الأيام الثلاثة، ويعتقدون أن النمور الورقية (قوات الاحتلال) هي قوة عظمى، بينما يتغافل هؤلاء عن القوة العظمى الحقيقية، وهي تلك القوة اللامتناهية التي لا توجد قوة أخرى وراءها.
كما يُعرب عن أسفه لأن الأمة الإسلامية التي يقترب تعداد سكانها من المليارين ما زالت تعتقد أن الخطر الحقيقي يكمن في قوة المحتل الإسرائيلي، ولا تقبل أن ترى حجم الدمار الذي آلت إليه إسرائيل في مواجهة كتائب القسام مع أنها فئة قليلة أمام قوات المحتل الإسرائيلي.
ويبدو أن شجعان غزة قد أعدوا العدة، وحسبوا ما قد يصيبهم في النهاية، وربما قاموا أيضًا بحساب نِسَب الربح والخسارة المتوقعة بين ما يعيشونه بالفعل والمكاسب التي خرجوا بها من تلك العمليات. ولم يتوقعوا أن إسرائيل التي لم تعترف قَط بأي قواعد أخلاقية أو إنسانية، سترتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، وستلجأ إذا لزم الأمر إلى الإبادة الجماعية لأصحاب الحق. فالواقع المعاصر أثبت أن إسرائيل حينما ستقوم بذلك فإنها ستجد دعمًا وتبريرًا كالعادة من أمريكا وأوروبا وما يسمى العالم الديمقراطي المتحضر، ولن يتخذوا أي خطوات عكسية للدفاع عن الحق، بل ستتعاطف مع المغتصب وستعلن أنه على حق، وبالتالي فلن يحركوا شعرة واحدة للدفاع عن المظلومين، لأن المسلمين هم ضحايا الجرائم ضد الإنسانية في هذا الموقف، وعلى مدى قرن من الزمان لم يُعَدوا بشرًا عاديين، ولا توجد قوة حقيقية للدفاع عن المسلمين أو للمطالبة بمحكمة إنسانية لاسترجاع حقوق المسلمين، وحتى لو خرج أحد للقيام بذلك الدور فسيتم تجاهله، ولذلك ليس هناك فائدة من إرهاق نفسك في هذا الأمر.
فبعد 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، تلقَّت غزة خلال أسبوع واحد عددًا من القنابل يساوي ضِعف عدد القنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة على أفغانستان خلال عامين. فقد تم قصف أهداف مدنية وأطفال ونساء، وشاهد العالم كله مقتل الآلاف. ولا بد من التأكيد على أن الذي يتعرض للقتل في غزة ليس أطفال غزة فقط، بل إنه شرف العالم الإسلامي وكرامته وبالطبع حريته وسيادته، فقد كان أهل غزة يتعرضون للقصف والموت كل يوم، ولكن اليوم وأمام العالم كله تبدو دماء المسلمين وأرواحهم وممتلكاتهم رخيصة جِدًّا، وأن الجرائم الإنسانية بحقهم أمر لا يتطلب أي محاسبة، وهذا هو مكمن التحدي، فصمتُ ما يقرب من ملياري مسلم أمام هذه الأحداث، ألا ينبغي لهم السؤال: من يموت تحت القصف هنا، ومن ينجو ويبقى على قيد الحياة؟
وفي الواقع هناك صعوبة كبيرة في قبول الظلم والغدر والقتل والإجرام والخسة والكذب ودعمه، لكن أصدقاء إسرائيل في أمريكا وأوروبا لم يخجلوا من القيام بهذه المَهمة الصعبة منذ البداية، وأعلن كثيرون منهم بلا خجل أنهم يقفون إلى جانب إسرائيل الجريمة ضد الإنسانية، التي أمطرت بالقنابل الأَجِنَّة الذين لم يولدوا بعد، وكذلك الأطفال في المهد، والجرحى الذين يتلقون العلاج في المستشفى. وكأن آلة الحرب الاستيطانية تحتاج إلى مساعدة وهي تهاجم بأسلحتها الحديثة والمتطورة أبناء الشعب الذين شرَّدتهم وأخرجتهم من ديارهم وظلمتهم واضطهدتهم وحاصرتهم في شريط ضيق، ولا تزال تقصفهم من الجو والبر متى شاءت منذ سنوات. ولذلك فإن هؤلاء الأصدقاء جميعًا أعلنوا بلا خجل أنهم يقفون إلى جانب إسرائيل بسلاحهم وأموالهم، وإن لم يكن ذلك كافيًا، فإنهم يدعمونها بمواقفهم السياسية.
وهذه المواقف وحدها تكفي العالم الحديث عارًا أن يتذكرها، إذ إن إسرائيل لم تكن أبدًا مضطهَدة أو ضحية أو بحاجة إلى المساعدة، لقد كانت إسرائيل دائما محتلة ومضطهِدة وقاتلة ظلمًا وسارقة لممتلكات الآخرين ومنازلهم وحياتهم. ورغم ذلك فإن الشعوب المتحضرة المنافقة في أوروبا وأمريكا تسابقت مرة أخرى لتعلن دعمها لإسرائيل في هذه المعركة غير المتكافئة.
وفي الساعات الأولى من الحرب الأخيرة، أعلن الرئيس الأمريكي جون بايدن عن حزمة مساعدات بقيمة 4.5 مليارات دولار، وأرسل سفينة حربية إلى إسرائيل. وكذلك فإن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أثناء زيارته لإسرائيل لم يتردد في الإعلان عن أنه جاء إليها بصفته يهوديًّا متضامنًا ومعبّرًا عن وقوفه إلى جانب إسرائيل.
فإذا كان هؤلاء يقفون بفخر إلى جانب إسرائيل بهذا الشغف، فماذا عن المسلمين؟ إن بعضهم -بعيدًا عن التصريحات الداعمة- حاول تبرير هذا التصعيد من خلال تصوير هجمات حماس على أنها نتيجة لعدم الحكمة أو حتى نتيجة لإستراتيجية “همجية” على أحسن تقدير.
والحقيقة أن حماس لا تحتاج إلى من يقرر مصيرها، فإن الشجعان في غزة لا يطلبون المساعدة من أحد، بل على العكس من ذلك، إنهم يساعدون الشعوب المُستعبَدة بمواقفهم الصامدة، في حين يبالغ هؤلاء المستعبَدون في تقدير أعداء الله ويستصغرون أنفسهم أمامهم ليصيروا عبيدًا عندهم، ولذلك تصير مساعدات غزة هي في الأصل مساعدة للشعوب خارج الأراضي المحتلة عسكريًّا.
وهكذا تدعو غزة بموقفها كل الشعوب إلى الصمود والخلاص، ولو لم يكن بوسع المرء تقديم الكثير، فإن غزة تمثل نورًا جديدًا للأمل في وقت يبدو فيه أن كل أضواء الأمل قد انطفأت وتلاشت.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس