سعيد الحاج - الجزيرة
تُوحي تصريحات أردوغان الأخيرة عن فتح صفحة جديدة في العلاقات مع سوريا، والعودة بها لما كانت عليه سابقًا باحتمال عقد لقاء مع الأسد. ورغم أنّ هناك عقبات وعوائق كثيرة ماثلة أمام خطوة من هذا النوع اليوم، فإنها تبدو مرجّحة لما تحققه من مصالح للطرفين.
مسار التقارب
منذ 2021، سارت تركيا في مسار لتحسين علاقاتها مع عددٍ من الأطراف الإقليميّة التي كانت على خلاف معها طيلة العقد الماضي. وعلى مدى السنوات الثلاث السّابقة عادت علاقاتها على مستوى رأس الدولة مع كل من السعودية، والإمارات، ومصر، ودولة الاحتلال (قبل أن تتضرّر مجددًا مع العدوان على غزة)، وسارت خطوات متقدّمة مع أطراف أخرى.
فيما يتعلق بسوريا، انتقلت العلاقات مع النظام السوري في السنوات الأخيرة من قناة أمنية ضيقة، وعبر الوسيط الروسي، إلى لقاءات أوسع، ثم علاقات على المستوى العسكري، ثم تصريحات من سياسيين ودبلوماسيين، وصولًا للقاء وزيرَي خارجية البلدية مولود جاويش أوغلو، وفيصل مقداد في مايو/أيار 2023. وقد رأينا في حينه أنه مسار حقيقي ومستدام – وليس تكتيكيًا مؤقتًا – لأنه بني على قراءة لما سبق، وقناعة لدى صانع القرار التركي بضرورة تغيير النهج في المنطقة ككل.
اليوم، وبعد اختفاء ضغوط الاستحقاقات الانتخابية، تتواتر التصريحات التركية التي تتحدث عن العلاقات مع النظام السوري. ففي الـ 24 من يونيو/حزيران الماضي، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: إن "أهم ما حققته تركيا وروسيا في سوريا، هو وقف القتال بين النظام والمعارضة، "مؤكدًا على ضرورة " توحيد سوريا، نظامًا ومعارضة، في مكافحة الإرهاب". وأشار فيدان إلى أن تركيا كانت تودّ أن يستفيد النظام من وقف القتال للتصالح مع المعارضة، وحلّ المشاكل الدستورية وإعادة ملايين اللاجئين، وإحياء الاقتصاد، لكنه "لم يستفد كما يجب".
بعد ذلك بأيام، قالَ الرئيس التركي: إنه لا يوجد سبب لعدم إقامة علاقات مع سوريا "بنفس الطريقة التي عملنا بها في الماضي"، مذكّرًا بحيوية هذه العلاقات سابقًا بما في ذلك عقد لقاءات عائلية مع "السيّد الأسد"، مشيرًا لإمكانية حصول ذلك مجددًا. وخلال عودته من اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون في أستانا، قال أردوغان: إنه قد يوجه دعوة لكل من بوتين والأسد لزيارة تركيا، مشيرًا إلى أن المنظمات، مثل؛ العمال الكردستاني، ووحدات الحماية، وتنظيم الدولة، هي من لا تريد التقارب بين تركيا وسوريا، و"لا تريد لسوريا أن تقف على قدمَيها من جديد".
وكانت تقارير قد تحدثت عن لقاءات تركية – سورية عقدت مؤخرًا، أحدها في قاعدة حميميم (نفى النظام حدوثها)، كما كان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أعلن عن وساطة بلاده بين أنقرة ودمشق، مشيرًا إلى قرب حصول "بعض الخطوات في هذا الصدد".
لماذا؟
في دوافع أنقرة للتقارب مع النظام السوري، ثمة ما هو مشترك مع مسار التقارب مع الأطراف الأخرى المذكورة، وفي مقدمة هذه الأسباب توجهات الإدارة الأميركية الجديدة (في حينها) برئاسة بايدن، وطي صفحة الثورات العربية، وهدوء عدد من النزاعات والملفات الإقليمية دون غالب أو مغلوب وباستنزاف مختلف الأطراف، وضغط الانتخابات الرئاسية التركية وحساسيتها، وتأثير كل ذلك على ملف الاقتصاد ذي الأولوية القصوى بالنسبة لأنقرة في المرحلة الحالية.
كما أن هناك – إضافة لهذه المشتركات – عوامل مرتبطة بالمسألة السورية خاصة، في مقدمتها ملف المنظمات الانفصالية في الشمال السوري، ومسألة اللاجئين السوريين في تركيا، وكلاهما حصلت فيهما مستجدات مهمة مؤخرًا.
تعمل أنقرة منذ سنوات في الملف السوري بأولوية منع تأسيس كيان سياسي "كردي"، تابع للعمال الكردستاني الانفصالي في شمال سوريا، وقد ساهمت عملياتها العسكرية في تقويض مقوّمات هذا الكيان إلى حد كبير. لكن ذلك لم يؤدِ إلى وأد المشروع تمامًا؛ بسبب الدعم الأميركي – تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا – بما في ذلك الوجود العسكري المباشر، ما عقّد حسابات أنقرة بخصوص عملية إضافية هناك.
ومؤخرًا، دعت الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا إلى انتخابات بلدية في يونيو/حزيران الماضي رأت فيها أنقرة "مقدمة للانفصال"، قبل أن تؤجلها "استجابة لمطالب الأحزاب والتحالفات السياسية المشاركة بها"، على حد قول مفوضية الانتخابات، لكن أيضًا بسبب الرفض الأميركي والتحذيرات التركية، كما هو واضح.
من جهة أخرى، فقد انفجر ملف اللاجئين السوريين في تركيا مؤخرًا، بعد عودة أحزاب المعارضة للتركيز عليه بشكل ملحوظ، واستمرار حملات "العودة الطوعية" للسوريين المقيمين على الأراضي التركية والتي تواجه انتقادات من جهات سورية لجهة التنفيذ، فضلًا عن الأحداث العنصرية المؤسفة التي تخللها الاعتداء على السوريين وممتلكاتهم في مدينة قيصري.
وفي الخلاصة، ترى أنقرة أن تطوير العلاقات مع دمشق سيفيد في مواجهة المشاريع الانفصالية في شمال شرق سوريا إضافة لتهيئة الأرضية لعودة ملايين السوريين المقيمين في تركيا. إضافة إلى ذلك، فإن علاقات طبيعية – أو شبه طبيعية – مع دمشق ستنشط التجارة بين الجانبين، وتنعكس إيجابًا على الاقتصاد التركي، إذ كانت القطيعة سببًا في فقدان تركيا لسوريا كبوابة تجارية على العالم العربي.
كما أن تلويح أنقرة بإقامة علاقات عادية مع النظام السوري تهدف لإرسال رسائل إلى كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وتحديدًا الأخيرة التي ما زالت تصر على دعم المنظمات (المسلحة أو الانفصالية) في منطقة شرق الفرات، رغم كل التحفظات التركية، وتأكيد أنقرة على أن ذلك يمسّ أمنها القومي. كما أنه لا يمكن استبعاد دور عدد من التطوّرات الإقليمية، وخصوصًا الحرب على غزة، واحتمالات تحوّلها إلى حرب إقليمية موسعة في هذا التوجه.
فرص اللقاء
على خلاف العلاقات مع الدول الأخرى، ثمة عوائق حقيقية تقف في مسار تطبيع علاقات أنقرة مع دمشق، في مقدّمتها عدم استقرار الأوضاع في سوريا، وجمود مسار الحلّ السياسي، واشتراطات النظام السوري بهذا الخصوص، ومواقف بعض الأطراف الخارجية، فضلًا عن إرث العقد الماضي الذي تميّز بموقف تركي رسمي رافض للاعتراف بالنظام، والعمليات العسكرية التركية على الأراضي السورية، وغير ذلك.
ولذلك، يستبعد كثيرون حصول لقاء بين أردوغان والأسد من باب أن هذه العقبات حقيقية وكبيرة. بيدَ أن نظرة أعمق على مسار العلاقات بين الجانبين، وكذلك على نظرة كل منهما له وعلى مصالح الطرفين، تشي بتحليل مختلف يقول بتراجع أهمية معظم هذه العوائق. ذلك أن الخطوات العديدة التي خطاها الجانبان نحو بعضهما بعضًا قد ساهمت في تبديد الكثير من ظلال العقد الماضي، لا سيما بعد التراجع الكبير لخطر المعارضة السورية على استقرار النظام.
وفي مواقف الأطراف الخارجية، ثمة رغبة روسية واضحة، وعدم ممانعة أميركية، فضلًا عن المساعي العربية لإعادة سوريا أو النظام للمنظومة الرسمية العربية من خلال عضوية الجامعة العربية، والعلاقات الثنائية، وليس ثمة فيتو إيراني على المسار، بل لعل طهران تبارك ذلك وتريده اليوم.
وعليه، يبقى عائقان رئيسان هما الاشتراطات المسبقة، وصعوبة تحصيل مخرجات ملموسة من اللقاء المفترض. بيدَ أننا نرجح تحول الاشتراطات المسبقة على التطبيع، مثل انسحاب القوات التركية، إلى ملفات تفاوضية أو حوارية مستقبلًا، كما حصل مع دول أخرى كان لها اشتراطات لم تتحقق، ومن المهم في هذا الصدد الإشارة لتراجع شروط النظام من "انسحاب القوات التركية" إلى "الإعلان عن الاستعداد للانسحاب".
كما أنه ليس مطلوبًا أن يكون للقاء أو بعده مباشرة مخرجات ملموسة على شكل قرارات أو تطورات محددة، فاللقاء مطلوب لذاته أولًا، ويحقق مصالح مباشرة وجوهرية للطرفين ثانيًا، ويفتح الباب على مرحلة جديدة ومسار مختلف ثالثًا. وإذا كانت مصالح أنقرة واضحة وسبق ذكرها، فإن للنظام السوري مصلحة حقيقية في اعتراف تركي مباشر ورسمي وكامل به، وتعاون معه في بعض الملفات، وتحييد ملف المعارضة السورية، وفتح ملف الشمال بطريقة مختلفة، إلى غير ذلك.
وعليه، ختامًا، فإننا نرجّح أن يحصل اللقاء على المستوى الرئاسي، وحتى لو لم يحصل قريبًا وحالت دونه بعض العوامل أو طالت المفاوضات بين الجانبين، إلا أنهما يسيران في طريق سيؤدي إليه في نهاية المطاف ولو تأجل قليلًا. لقد التقى الرئيس التركي بقيادات دول كانت العلاقات معها في غاية التعقيد مثل النظام السوري، وربما أكثر، وبالتالي لا ينبغي استبعاد تكرار الأمر مع الأسد، والذي نرى أنه سيتحقق في المدى المنظور، وسيفرض استحقاقاته على مختلف الأطراف.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس