د. سمير صالحة - أساس ميديا

تتمسّك إيران بالدفاع عن مصالحها في العراق ومحاولة توسيع ساحة نفوذها هناك عبر وسائلها وأساليبها المتعدّدة، بشكل مباشر أو من خلال وكلاء محلّيين يبنون تحالفات سياسية وأمنيّة واقتصادية تسهّل لطهران التمدّد في مناطق عراقية جديدة مثل كركوك التي لم يحسم الدستور العراقي ومادّته 144 مستقبل ومصير المدينة المتنازع عليها بين أكثر من جناح عرقي.

بعد أيام فقط على التساؤلين التاليين في مقال بعنوان “حصّة طهران محفوظة في المطبخ التّركيّ العراقيّ” (“أساس” بتاريخ 22 آب 2024): “هل نجح اللاعب الإيراني في تسجيل اختراق مهمّ وحماية حصّته ونفوذه في مسار العلاقات التركية العراقية الجديدة؟ وما الذي تعنيه مشاركة القيادي في “هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض في الوفد العراقي الرسمي المتوجّه إلى أنقرة للتفاوض حول أكثر من ملفّ سياسي وأمنيّ واقتصادي؟”، أسقطت قوات الدفاع الجوّي العراقي مسيّرة تركية كانت تحلّق في رحلة استكشاف بين السليمانية وكركوك لرصد تحرّكات عناصر “حزب العمال الكردستاني” التي بدأت التمدّد والدخول في عمق الشمال العراقي باتجاه السليمانية وسنجار وصولاً إلى كركوك.

ماذا حصل في سماء كركوك؟

صدر تصريحان متناقضان، الأوّل صادر عن نائب قائد القوات الجوّية العراقية في منطقة الشمال عبد السلام حمود رمضان الذي أعلن إسقاط المسيّرة بصواريخ عراقية، والثاني عن غرفة قيادة العمليات المشتركة تحدّث عن استهداف طائرة مجهولة الهويّة في أجواء كركوك. لكنّ القيادة العسكرية التركية أعلنت أنّها ستواصل هذا النوع من العمليات في إطار المادّة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وحقّ الدفاع المشروع. فما الذي جرى صباح الخميس بتاريخ 29 آب المنصرم على الرغم من التعتيم التركي العراقي الرسمي حول الحادثة؟ من الذي أعطى الأوامر باستهداف المسيّرة “أك سونغورلو” وسط أجواء تعاون وانفتاح واسع بين البلدين؟

من هي الجهة التي تريد توجيه رسائلها عبر توتير العلاقات بين أنقرة وبغداد وتكريس نفوذها في المشهد العراقي وتثبيت حصّتها في أيّة تفاهمات أو اتفاقيات بين البلدين على المستويين الثنائي والإقليمي؟ وهل هي رسالة إيرانية انتقامية من الطرفين التركي والعراقي بعد تراجع نفوذ طهران الإقليمي في أكثر من ملفّ ووصول بغداد إلى الالتزام بالقرار الأميركي الداعي إلى تجميد أكثر من 10 مليارات دولار من الأموال الإيرانية الناجمة عن صفقات الطاقة بين البلدين؟ وهل حرّكت طهران شريكها المحلّي، كما يقال عنه هنا، “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” وزعيمه بافل طالباني الذي حصل على جائزة ترضية سياسية بعد مناورة انتخابات المحافظ الجديد لكركوك وتغيير التوازنات والتحالفات الحزبية والسياسية بشكل مفاجىء أعطى إيران ما تريد؟ لماذا لم تكن هناك اتّصالات عراقية تركية سريعة لتلافي الحادثة؟ ومن الذي أعطى الأوامر من دون الرجوع إلى السلطة العسكرية والسياسية العليا في العراق؟ وكيف ستردّ أنقرة وتتعامل مع هذه الرسالة الإيرانية؟

صواريخ فرنسية بأيدي عراقية..

تتمسّك تركيا بنتائج جهود التهدئة والحوار مع العراق، ولذلك لا تريد منح أطراف محلّية وإقليمية فرصة ضرب هذا التقارب. قناعة الكثيرين في الداخل التركي هي أنّ قرار استهداف المسيّرة لم يكن صادراً عن القيادة العراقية المركزية، بل عن جهات متضرّرة من التقارب التركي العراقي الأخير. القناعة أيضاً أنّ البحث ليس عن الجهة التي زوّدت بغداد بهذا النوع من الصواريخ بل عن الجهة التي أعطت الأوامر باستخدامه.

أكّدت الخارجية التركية بعد استهداف “أك سونغورلو” مواصلة التنسيق مع الجانب العراقي لمحاربة المجموعات الإرهابية والعمل على كشف كلّ تفاصيل الحادثة مع المسؤولين العراقيين في إطار الإرادة المشتركة لمحاربة هذه العناصر الإرهابية.

لكنّ الاحتمال الأقرب الذي تناقشه أنقرة وبغداد حيال الحادثة هو البحث عن أصابع طهران. طهران أرادت اقتناص فرصة الردّ وإصابة أكثر من عصفور بحجر واحد: إعطاء الأوامر للمحسوبين عليها في العراق باستهداف الدرون التركية عبر القوات العسكرية النظامية، لكن بصواريخ فرنسية بيعت للعراق.

1- “نظرية المؤامرة”. طريقة الإعلان عن استهداف المسيّرة من قبل نائب قائد القوات الجوّية الشمالية العميد الركن عبد السلام حمود رمضان الذي كان يتحدّث بحماسة وانفعال شديدين عن إسقاط الطائرة، وكأنّ المسيّرات التركية والغربية والإسرائيلية والإيرانية تخرق الأجواء العراقية للمرّة الأولى في تاريخها. فما الذي دعا الضابط العراقي إلى الإدلاء بهذا التصريح الحماسيّ؟ وهل فعلاً تمّ احتجازه ونقله إلى بغداد للمثول أمام المحكمة العسكرية بسبب ما فعله دون الرجوع إلى القيادة المركزية؟

2- يأتي احتمال أن تكون مشاركة المسيّرات الحربية التركية في تحديد مكان سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في أيار المنصرم، والشعبية الواسعة التي حصلت عليها “أكنجي” بعد فشل المسيّرات الإيرانية في تنفيذ المهمّة، أغضبتا القيادة في طهران ودفعتاها للندم على قرار الاستعانة بالمسيّرة التركية التي تجول في سماء تبريز على مرأى الملايين في العالم قبل أن تعود أدراجها إلى الأجواء التركية وهي ترسم علامات النصر وتعلن إنجازها للمهمّة. الموجع إيرانياً بعد ذلك كان إعلان الرئيس التركي أنّ “الصناعات الدفاعية هي بلا شكّ أحد المجالات التي صنعت فيها تركيا تاريخاً مشرّفاً”.

3- بين الاحتمالات التي تحرّك الأصابع باتجاه طهران انزعاجها من العمليات العسكرية التركية المكثّفة ضدّ الجماعات المحسوبة عليها في سنجار والسليمانية في شمال العراق بالتنسيق مع بغداد. لكنّ ما يزعج طهران أكثر هو تمدّد رقعة العمليات العسكرية التركية باتجاه كركوك بعد تسريبات تحدّثت عن تنسيق إيراني مع “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” باتجاه فتح الطريق أمام وصول عناصر لحزب العمال إلى المنطقة بعد التطوّرات السياسية الأخيرة في المدينة.

4- لا يمكن هنا الفصل بين نتائج الانتخابات المحلّية الأخيرة في كركوك التي وسّعت من نفوذ إيران وحلفائها المحلّيين هناك، وبين إسقاط المسيّرة التركية في سماء كركوك بعد أيام على توقيع اتفاقيات أمنيّة تركية عراقية في أنقرة بحضور رئيس مجموعات الحشد الشعبي فالح الفياض.

5- وصول بغداد وأنقرة التي نفّذت عشرات العمليات العسكرية في شمال العراق ضدّ مجموعات حزب العمّال، إلى توقيع اتفاقيات أمنيّة وعسكرية في تموز المنصرم من أجل التنسيق المشترك لمحاربة هذه العناصر المنتشرة في جبال قنديل وسنجار والتي نجحت في التمدّد باتجاه السليمانية عبر تحالفات “حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” ومجموعات “قوات سوريا الديمقراطية” في شرق الفرات، بضوء أخضر إيراني – أميركي يسوده التخادم المتبادل في جغرافيا تقاطع الحدود العراقية السورية.

6- إلى جانب توقيت حصول الاستهداف عند العاشرة والنصف من صباح 29 آب المنصرم بينما كانت أنقرة تناقش مع القيادات العراقية والإماراتية والقطرية تنسيق جهود الدول الأربعة من أجل تفعيل دعم مشروع خطّ التنمية العراقي الإقليمي الذي تجاهل إيران ونفوذها ومصالحها في العراق.

القرار هو إيراني بامتياز ورسائل طهران متعدّدة الجوانب والأهداف هنا: تكريس نفوذها في مناطق عراقية جديدة عبر تنسيقها مع قيادات السليمانية التي تنسّق بدورها مع مجموعات حزب العمّال و”قسد” بمعرفة الجانب الأميركي ودعمه. وهي عملية ردّ تحيّة إيرانية للتقارب التركي العراقي بعد زيارة إردوغان لبغداد في نيسان المنصرم وزيارة وفد عراقي رفيع لتركيا قبل أسابيع شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنيّة والسياسية والاقتصادية، إلى جانب توقيت زيارة وفد عراقي من الجبهة التركمانية في كركوك للعاصمة التركية لبحث تطوّرات الأوضاع الأمنيّة والسياسية بعد انتخاب محافظ كركوك الجديد.

أنقرة تنتظر بغداد

تنتظر أنقرة ترجمة بيان “خليّة الإعلام الأمنيّ” في الحكومة العراقية الذي يختلف كلياً عمّا أعلنه العميد الركن عبد السلام رمضان. البيان لم يتبنَّ عملية الإسقاط بشكل مباشر، بل وضع الحادثة في إطار السقوط المبهم، وأعلن في نهايته أنّه “تمّ تشكيل فريق عمل فنّي من الأدلّة الجنائية والدفاع الجوّي وملاكات الطائرات المسيّرة لغرض معرفة أسباب سقوطها، وملابسات الحادث. الهدف الآن هو حسم موضوع من أعطى الأوامر باستهداف المسيّرة، وهل هي حقّاً أوامر جاءت من القيادة في بغداد أم من قيادة المنطقة الشمالية في العراق دون الرجوع إلى مركز القرار السياسي والعسكري، خصوصاً أنّ الإعلام العراقي المقرّب من طهران نقل عن رمضان أنّ “إسقاط الطائرة تمّ بأسلحة وجهود عراقية وتوجيه من قبل القائد العامّ للقوات المسلّحة وقائد الدفاع الجوّي”؟

ما زالت الساحة العراقية مكان مواجهات بين أكثر من لاعب سياسي على الرغم من أنّ الوعود والتفاهمات في عام 2003 كانت تقول غير ذلك، ولن يتوقّف تبادل الرسائل الأمنيّة والسياسية بين الأطراف المحلّية والإقليمية المؤثّرة في المشهد بمثل هذه السهولة كما يبدو.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس