ترك برس

تواجه اتفاقية شنغن ضغوطاً متزايدة في ظل التدابير الأوروبية الجديدة لحماية الحدود، والتي تهدف إلى الحد من تدفق المهاجرين واللاجئين، فيما تبرز تساؤلات عما إذا كانت هذه التدابير ستؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على تركيا، كونها دولة تربطها اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي بشأن إدارة تدفقات الهجرة.

والأسبوع الفائت، نفت السفارة الألمانية بأنقرة صحة الادعاءات حول تعليق برلين منح التأشيرات للمواطنين الأتراك، وذلك بعد أيام من تشديدها الرقابة على حدودها البرية.

وأوضحت السفارة في بيان لها، أن تعزيز إجراءات الرقابة المؤقتة على الحدود البرية الألمانية يأتي ضمن إطار مكافحة الهجرة غير الشرعية، وأن هذا الأمر لن يؤثر على منح التأشيرات للمواطنين الأتراك. كما أكدت على أن "إجراءات منح التأشيرات للمواطنين الأتراك ستستمر كالمعتاد في الفترة المقبلة."

وفي حين يستعد الاتحاد الأوروبي في عام 2025 للاحتفال بمرور 40 عاما على توقيع اتفاقية شنغن، فإن الإجراءات الألمانية الحديثة المرتبطة بتوسيع القيود وعمليات المراقبة والتفتيش على الحدود بدعوى مكافحة الجريمة وتدفقات الهجرة غير النظامية، تأتي لتوجه ضربة لحرية التنقل للأوروبيين، وتعيد الشكوك القديمة بشأن مستقبل الاندماج الأوروبي إلى السطح، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".

تاريخ الاتفاقية

يعترف الموقع الخاص باتفاقية شنغن على شبكة الإنترنت، بأنه على الرغم من القبول الواسع النطاق الذي نالته المعاهدة من حيث المبدأ، فإن التحرك لإلغاء الرقابة الحدودية بين الدول الأوروبية سرعان ما واجه الكثير من الصعوبات العملية نظرا لضخامة المهمة وعدد الدول المعنية والجوانب التقنية ذات الصلة.

لكن على الرغم من هذه الصعوبات وغيرها، فإن الجهود الدبلوماسية أسفرت في 14 يونيو/حزيران 1985 عن اتفاقية شنغن التي تقترح الإلغاء التجريبي لمراقبة الحدود.

وقعت الاتفاقية بالقرب من بلدة شنغن بدولة لوكسمبورغ، في البداية من قبل دول أعضاء، شملت بلجيكا وفرنسا وألمانيا (ألمانيا الغربية في ذلك الوقت) ولوكسمبورغ وهولندا.

واستغرقت ما يناهز عقدا من الزمان لتصبح سارية المفعول، وانضم إلى الموقعين الأصليين على المعاهدة 20 عضوا إضافيا آخر على مدى العقود التالية.

تم توسيع اتفاقية شنغن في عام 1990 باتفاقية شنغن ثانية، والتي قدمت سياسة التأشيرة المشتركة، وأصبحت سارية أخيرا في عام 1995، عبر 7 من الدول الأعضاء. وبعد 9 سنوات أصبحت الاتفاقية جزءا من قانون الاتحاد الأوروبي.

تغطي اتفاقية شنغن مساحة 4 ملايين و312 ألف كيلومتر مربع يعيش بها حوالي 420 مليون نسمة. لكن بخلاف ذلك تسمح منطقة شنغن لرعايا 59 دولة في العالم بدخول المنطقة دون الحاجة لتأشيرات دخول. ويعزز هذا موقع الاتحاد الأوروبي كأحد أكثر المناطق الجاذبة للسياح في العالم.

على الرغم من الأزمات السابقة التي مر بها الاتحاد الأوروبي، من بينها بالخصوص الأزمة المالية المرتبطة بمنطقة اليورو قبل عقد، ظل فضاء شنغن متماسكا وبمثابة حبل النجاة لدول التكتل للحفاظ على حركة التجارة والاقتصاد وانسياب السلع، وعلاوة على ذلك نجحت الاتفاقية حتى وقت قريب في الصمود أمام أكثر من اختبار.

منعرج 2015

دفعت التدفقات الجماعية للاجئين الوافدين من الشرق الأوسط وآسيا على الأقدام في العام 2015، الذين ناهزت أعدادهم المليون، بعض دول الاتحاد الأوروبي من بينها النمسا والمجر وسلوفينيا والسويد والدانمارك، إلى اتخاذ خطوات بفرض رقابة صارمة على الحدود مما شكل وقتها تهديدا لاتفاقية شنغن.

وأعقب ذلك تفشي جائحة كورونا في العالم مما استدعى الحكومات الوطنية للجوء إلى تدابير الإغلاق الوقتي. وألقى ذلك بظلاله على حرية التنقل ولكن اتفاقية شنغن ظلت صامدة بتلاشي المرحلة الخطرة للجائحة وتعميم حملات التطعيم في العالم.

ولكن بمجرد انقشاع الأزمة الصحية عادت أعداد اللاجئين إلى الصعود من جديد لتبلغ لأول مرة منذ عام 2016 أكثر 1.14 في 2023 وهو رقم قياسي حتى ذلك الوقت، مما أدى الى تفاقم أزمة الاكتظاظ في مراكز إيواء طالبي اللجوء في أغلب دول الاتحاد.

على الرغم من ذلك لم تشكل النقاشات والمفاوضات بين دول الاتحاد الأوروبي حول سياسات الهجرة واللجوء تهديدا مباشرا لاتفاقية شنغن ولكن تحرك ألمانيا بعد حادثة الطعن التي ارتكبها طالب لجوء في مدينة زولنغن أشعل أسئلة بشأن مستقبل الاتفاقية.

وعلى المدى المتوسط ليس واضحا الى أي مدى يمكن أن يشكل تحرك ألمانيا ومن ورائه حادثة الطعن تهديدا لوجود الاتفاقية، ولكن في كل الأحوال يطالب المحافظون داخل البلاد والأحزاب اليمينية في عموم أوروبا بخطوات وقرارات بمعزل عن أي التزام تفرضه اتفاقية شنغن أو أي اتفاقيات أخرى.

ويخشى المراقبون من أن أي تحرك سياسي مشكك من جانب برلين تجاه اتفاقية شنغن قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة وغير مسبوقة في ظل النفوذ الذي تتمتع به، كقاطرة أولى للاتحاد الأوروبي.

ويثير المسؤولون الأوربيون بموازاة ذلك، مخاوف أمنية أخرى ترتبط بموقف المجر التي هددت بتوجيه المهاجرين غير النظاميين إلى بروكسل ردا على غرامة 200 مليون يورو التي فرضتها محكمة العدل الأوروبية على بودابست بسبب انتهاكات حقوقية للمهاجرين.

وتلاحق بودابست انتقادات بسبب توسيعها نظام البطاقة الوطنية الخاص بها ليشمل المواطنين الروس والبيلاروسيين، والذي تقول المفوضية الأوروبية إنه يمكن أن يشكل التفافا على العقوبات ويهدد أمن منطقة شنغن برمتها.

لي ذراع

ومع أن الرقابة على الحدود تتعارض مع روح شنغن فإن الاتفاقية تسمح للدول الأعضاء بفرض قيود وقتية على الحدود في حال هناك مخاطر عالية تهدد النظام العام والأمن الداخلي.

وتحدد تلك الفترة بمدة 6 أشهر وتمت الموافقة على تعديلات في بداية 2024 لتصبح المدة القصوى عامين بدلا من 6 أشهر، مع إمكانية التمديد لمرتين في حدود 6 أشهر.

لكن بالعودة إلى أرشيف المفوضية فإن مطالب الرقابة الوقتية على الحدود منذ عام 2006 بلغت 441 طلبا من بينها 35 طلبا فقط تم تسجيلها قبل عام 2015. وتعكس الإحصائيات أن تواتر اللجوء للدول الأعضاء أدى إلى فرض الرقابة على الحدود بشكل يتعارض مع ضوابط اتفاقية شنغن التي تضع تلك الخطوات كآخر الحلول الاستثنائية الممكنة.

ودفعت سياسات الحكومات الوطنية المفوضية الأوربية إلى دعوة الدول الأعضاء في أبريل/نيسان 2014 من أجل إلغاء تدريجي للرقابة الوقتية على الحدود. ولكن غالبا ما يفضي هذا الوضع إلى لي ذراع بين بروكسل وبعض الحكومات اليمينية بسبب نزاع في الصلاحيات.

وعلى سبيل المثال أصدرت محكمة العدل الأوروبية في العام 2022 قرارا يدين النمسا بانتهاك قواعد شنغن من خلال التمديد للرقابة الوقتية على حدودها مع المجر وسلوفينيا، ومع ذلك استمرت فيينا في تطبيق سياساتها معتمدة على تبريرات أمنية.

ومن الناحية النظرية ليس هناك ضمانات قوية يمكنها أن تلغي أو تحد من سياسات الحكومات الوطنية في التحكم برقابة الحدود.

ويشير موقع اتفاقية شنغن، إلى أن قاعدة التعليق المؤقت للاتفاقية تسمح لأي من دول شنغن بإعادة فرض الرقابة الحدودية. ومع ذلك فلا يجوز اللجوء لهذا الاستثناء المؤقت إلا في حالات استثنائية تنطوي على تهديد خطير للأمن القومي أو السياسة العامة لتلك الدولة.

بالإضافة إلى ذلك فإنه يجب إبلاغ البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية وكذلك عامة المواطنين في حال اتخاذ أي دولة لمثل هذه الخطوة غير الاعتيادية.

ضوابط حدودية

وتقر الباحثة في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية سايلا هاينيكوسكي بوجود شكوك حول مدى استعداد دول منطقة شنغن لإزالة الضوابط الحدودية في المستقبل القريب بسبب الرسائل التي تنطوي عليها هذه السياسات، ومن بينها أساسا إعطاء انطباع للمواطنين ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى والمهاجرين المحتملين بأن هناك وضعا استثنائيا في أوروبا تتعامل معه الحكومة.

ولا يخرج القرار الألماني عن هذه الدائرة، حيث أمرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فايزر بفرض رقابة مؤقتة على جميع الحدود البرية الألمانية للحد من حالات الدخول غير المصرح به.

ومن المقرر أن تستمر عمليات الرقابة الإضافية مبدئيا 6 أشهر، مما يعد انتكاسة أخرى لحرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي.

وهذه الحواجز موجودة بالفعل عند المعابر مع بولندا وجمهورية التشيك وسويسرا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بالإضافة إلى النمسا حيث تطبق ألمانيا على حدودها البرية مع جارتها الجنوبية تدابير مماثلة للحد من الهجرة غير النظامية منذ سبتمبر/أيلول 2015. وقد تم تمديد هذه الإجراءات مرارا، وستستمر حتى 15 ديسمبر/كانون الأول المقبل.

ومع أن وزارة الداخلية الألمانية تعهدت بأن تنفذ الشرطة الاتحادية هذه الضوابط بشكل مرن ومع التركيز على تقليل ما قد يزعج الركاب والمسافرين أو يعرقل التجارة، فإن هذا لا يمثل ضمانة حقيقية.

وقد قوبلت هذه التدابير بتحفظات من الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الذي انتقد ضمنا نقاط التفتيش الثابتة على الحدود، لا سيما على حدود لوكسمبورغ حيث يعبر قرابة 50 ألف ألماني يوميا من أجل العمل.

وقال يونكر لوكالة الأنباء الألمانية تعليقا على التدابير الألمانية "إن إنجازات الاندماج الأوروبي أصبحت الآن بمنتهى البساطة موضع تشكيك تجعلني أشعر بالقلق"، مضيفا أنه لا ينبغي السماح "بأن تنشأ حدود مجددا في عقول الناس وقلوبهم".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!