ياسين أقطاي - يني شفق
الجميع يعلم أنه من عبث انتظار العالم المتمدن والمتحضر والمتطور ليتحرك ضد الجرائم اللاإنسانية التي يتعرض لها لبنان على يد إسرائيل الصهيونية، بعد ما تعرضت له غزة، والتي ترق إلى مستوى الإبادة الجماعية، فإسرائيل الصهيونية دولة الاحتلال ومرتكبة الإبادة الجماعية، هي في الأصل جزء أساسي من هذه الحضارة والحداثة والتمدن.
إن المشروع الصهيوني هو في جوهره مشروع اتفقت عليه جميع الأطراف التي أسست النظام العالمي عقب الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1918. صحيح أن للمشروع بعدًا دينيًا سياسيًا، لكنه ليس محصورًا بذلك فقط، بل ترافقه أبعاد قوية من الاستغلال والنظام الاقتصادي السياسي. فهو يلعب دورًا محوريًا في تقاسم موارد الشرق الأوسط الاقتصادية وإدارتها. وقد تشكلت جميع الدول والنظم في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى حول هذا المحور ولتحقيق هذا الهدف. والاعتقاد بأن اليهود وحدهم هم الفاعلون في هذا المشروع هو أحد أكبر المفاهيم الخاطئة والمضللة. فسواء كان البعد الديني السياسي أو البعد الاقتصادي السياسي، هناك تحالف صليبي صهيوني. دعوا ما بعد الماركسيين يتناولون اللغز المتعلق بالفاعل الأكثر تأثيرًا بين هذين الطرفين، فمن جانبنا يكفي ما قدمناه.
أما القضية التي تهمنا نحن أكثر فهي ما يحدث للعالم الإسلامي في مواجهة هذا النظام السائد. وفي عالم تحول فيه المسلمون إلى مجرد أدوات وضحايا بات من المعتاد أن نتساءل مع كل مجزرة، وظلم، وإبادة جماعية ترتكب بحقهم: أين العالم الإسلامي؟ رغم أن تعداد المسلمين يقارب الملياري نسمة. ولكن من المعروف أن العالم الإسلامي فقد وجوده السياسي بعد هزيمة عام 1918، ومن ثم أُلغيت الخلافة عام 1924، مما أدى إلى نهاية وحدته السياسية.
ورغم فقدان العالم الإسلامي وجوده السياسي الفاعل، إلا أنه من المستحيل ألا يُظهر سكانه الذين يقترب عددهم من ملياري نسمة، ولو بشكل متفرق، بعض الإرادة أو المطالبة بالوجود. فالإسلام، بكتابه وسنة نبيه وتجربته التاريخية لا يمكن أن يزول بقرارات تاريخية تحكم عليه بالموت. وبالرغم من عدم وجود وحدة سياسية على مستوى الدول، إلا أن هناك دائمًا سعيًا ورغبة وإرادة لدى الأمة الإسلامية للوحدة على مستوى الشعوب. فالصلاة والصوم والقرآن، وما يزرعونه من وعي بالأمة في النفوس والعقول والقلوب والأعمال الفردية والجماعية، لم ولن تستطيع أي قوة مهما بلغت أن تمحوه.
ورغم وجود منظمة التعاون الإسلامي، إلا أنها لا تؤدي الدور المنوط بها في الظروف الراهنة التي تشتد فيها الحاجة إليها. ذلك لأن الدول التي تدير هذه المنظمة قد سارت على نفس النهج الذي ألغى الخلافة، حيث تم تحييدها لتتماشى مع رغبات النظام العالمي غير الإسلامي. ورغم ذلك، فإن الرغبة في الوحدة بين المسلمين، والألم الذي يشعرون به جراء أي اعتداء على أي جزء من أجزاء الأمة، ما زالا حاضرين بقوة. ولذلك حتى في ظل غياب الدول المأساوي تظل الحاجة إلى الوحدة بين الشعوب المسلمة قائمة.
قبل نحو عقد من الزمان، وفي مبادرة من رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، عُقد مؤتمر منتدى كوالالمبور الذي ناقش في دوراته الأولى قضايا جوهرية يعاني منها العالم الإسلامي، مثل "الدولة المدنية"، و"تأثير الحرية والديمقراطية على الاستقرار والتنمية"، و"الحوكمة الرشيدة"، و"الانتقال إلى الديمقراطية". ورغم أن المؤتمر لم يدَّعِ يوماً أنه بديل لمنظمة التعاون الإسلامي، إلا أنه تولى هذا الدور بشكل تلقائي، ربما بسبب الثغرات التي أظهرتها المنظمة في القضايا والأعمال التي كان يتعين على المنظمة التعامل معها. وفي دورته الخامسة التي عقدت في ديسمبر 2019 بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ناقش المؤتمر دور التنمية في تحقيق السيادة الوطنية. وقد وصف مهاتير محمد هذا المؤتمر الذي شارك فيه 450 قائدًا ومفكرًا ومثقفًا، بأنه "مبادرة صغيرة" يأمل في توسيعها لتشمل مزيداً من المشاركين في المستقبل.
وعقد المنتدى هذه المرة في إسطنبول، متخذًا قضية غزة محورًا له، تحت مسمى جديد: "منتدى الفكر والحضارة في العالم الإسلامي"، وبهذا التغيير في الاسم، يتضح السعي لجعل نتائج المنتدى وتوصياته ومقترحاته تُنسب للأمة الإسلامية جمعاء، دون حصرها في دولة أو مدينة بعينها.
وقد نظم المؤتمر في إسطنبول بالتعاون مع حركة الإنسان والحضارة، ومركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) الذي يرأسه الأستاذ سامي العريان أستاذ الشؤون العامة بجامعة إسطنبول صباح الدّين زعيم. وقد تزامن انعقاد المنتدى مع الذكرى السنوية لـ"طوفان الأقصى"، في الفترة من 6 إلى 7 أكتوبر، حيث شارك المؤسس والرئيس الفخري للمنتدى الدكتور مهاتير محمد عبر الاتصال المرئي. وقد تم اختيار عنوان "فلسطين رافعة الاستنهاض الحضاري للأمة" كشعار للمنتدى.
وقد اعتبر جميع المشاركين في المنتدى أن طوفان الأقصى يشكل نموذجًا حتميًا للصحوة الإسلامية، وعلامة فارقة، وأنه تجربة جهادية قوية يمكن من خلالها تتبع العقلية والروح والإرادة والفلسفة التي تقف وراء الحركة الإسلامية، كما أنه مصدر إلهام للتفكير النقدي في مواجهة النظام العالمي.
وكان من اللافت أن المشاركين من جميع أنحاء العالم الإسلامي شاركوا في هذا المنتدى بروح من الحماس والتعاطف مع الرابط الذي نشأ بين "طوفان الأقصى" وبين المنتدى. وقد احتوى البيان الختامي، الذي بلغ طوله حوالي 10 صفحات واشتمل على 50 بندًا، على ملخص لما تم مناقشته خلال المنتدى. وسأكتفي هنا بتقديم مقتطفات صغيرة من هذا الملخص.
ـ لقد أسس الإسلام حضارة عالمية تُعد رحمةً للإنسانية. وقد شارك في بناء هذه الحضارة الغالبية العظمى من المسلمين، بجميع مذاهبهم وفرقهم. وعندما انهارت هذه الحضارات وتفككت وحدتهم السياسية، تضررت مجتمعاتهم جميعًا، بجميع طوائفهم وأعراقهم.
- إن فتح القدس واستلام مفاتيحها من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يشير إلى الانتقال العملي للإسلام إلى البعد الحضاري العالمي، لقد ظلت فلسطين والمسجد الأقصى بوصلة المسلمين الثقافية، ومرآة تعكس ضعفهم أو قوتهم في مواجهة القوى العالمية المعادية.
ـ إن احتلال فلسطين من قبل البريطانيين يُعد ذروة المؤامرة الغربية الصهيونية التي هدفت إلى إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، والقضاء على الوحدة السياسية الإسلامية، واستعمار البلدان الإسلامية، وإعاقة نهضتها الثقافية، والحفاظ على حالة التخلف والانقسام والضعف التي تعاني منها الأمة الإسلامية.
- إن السعي لتحرير كل شبر من أراضي الدول الإسلامية المحتلة هو واجب يقع على عاتق الحكام والعلماء والقادة وجميع المسلمين، حسب مسؤولياتهم ومكانتهم وقدراتهم.
- يُعتبر احتلال الصهاينة للمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، أكبر كارثة وأسوء فضيحة وأخطر تهديد واجهه المسلمون في القرن الماضي. فلا أمن للإسلام والمسلمين ما لم يتم تحريره.
ـ إن الكيان الصهيوني هو مشروع استعماري غربي أنشأته بريطانيا لحماية مصالح الغرب، وتتولى حمايته الولايات المتحدة، ويهدف لمنع المسلمين من تحقيق نهضة حضارية. ولا سبيل للتخلص من هذا المشروع إلا من خلال الجهاد بكل أشكاله، بما في ذلك القتال في سبيل الله.
ـ إن السعي لتحرير فلسطين والمسجد الأقصى فرض على كل مسلم ومسلمة، وهو ضرورة حتمية لتحقيق أمن الأمة الإسلامية ووحدتها ونهضتها الحضارية، ويصب في مصلحة جميع دول العالم العربي والإسلامي.
ـ عندما استوطن الكيان الصهيوني في فلسطين، طُلب منه أن يتفوق على جميع الدول العربية والإسلامية لضمان بقائه. ولا سبيل لتحقيق استقرار دائم لأي دولة إسلامية، ولا لإعادة إحياء الحضارة الإسلامية، دون إنهاء الاحتلال الصهيوني.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس