د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

لقد كان سقوط النظام الأسدي بهذه السرعة المذهلة مفاجئة كبيرة لكل العالم ، لداعميه روسيا وايران،  ولكل الدول المجاورة والاقليمة ،  ولشريحة كبيرة من السوريين وحتى قوات ردع العدوان التي كانت تتوقع بعض المقاومة على أهم الخطوط الدفاعية وخاصة المدن الرئيسية.

هذا السقوط السريع ، أوقع الدول الداعمة له من روسيا وايران بالصدمة والهول ، وفقدان القدرة والتوازن لاتخاذ خطوت عسكرية سريعة وحاسمة لحمايته من السقوط قبل أن يدخل الثوار دمشق وينتهي الأمر.

كما أن  سرعة هذا السقوط الخيالي جعل البعض ممن يحلو له التفكير ضمن هيمنة نظرية المؤامرة،  أن يشطح بخياله للإيماء بأن هذا الأمر لا يخلو من مؤامرة عالمية تمت بموافقة أمريكية وما رأيناه هو مجرد تسليم واستلام ..وهذا مؤشر ايضا للإنهزام الداخلي الذي تعاني منه أمتنا بالعقود الاخيرة ..

 والمقال ليس  للرد على هذا التفكير وتفنيده ودحضه ، فهذا يحتاج تخصيص نقد لوحده، ولكن ربما نستطيع أن نوجز ذلك بالقول بأن ماحصل بسوريا هو نتاج تكامل ظروف عالمية واقليمية  وداخلية ، خارجة عن تخطيط النظام العالمي ورغبته، وتخلخل موازين القوى بعد الانتقام الاسرائيلي من ايران واذرعها بسوريا بعد طوفان الأقصى ، حيث انقلب السحر على الساحر مما جعلها تنقلب على حليف الأمس، لتضرب معاقله بسوريا ولبنان .

ترافق هذا مع الانشغال الروسي بحرب أوكرانيا التي طالت رحاها ولم تستطع الخروج من مستنقعها وكانت تظنها حرب خاطفة سريعة.

لكن الأهم من ذلك هو تراكم تضحيات السوريين ، وعدم استسلامهم على مدار اربعة عشر عاما مضت ، ليتحقق النصر على أيادي الثوار الذين لم يقبلوا النظرية العالمية التي أراد الجميع اقناع السوريين بها ، وهي أن الحسم العسكري مرفوض بسوريا ، ولا حل إلا الحل السياسي التفاوضي ، هذه الفئة آمنت بالحل العسكري واستعدت له بشكل يفوق حدود الخيال لتغتنم الفرصة عندما تحين. فالاستعداد والفرصة السانحة جعلت الكثيرين يرون دمشق محررة قبل أن يصحوا من غفلتهم.

ساعد على ذلك مواقف دول عربية والجارة التركية خاصة باحتماع الدوحة الأخير ..

لم يكن هذا الإنهيار السريع هو المفاجئة الوحيدة ، بل حمل معه عدة مفاجئات لم تكن سارة لمن يريد لسوريا أن تقع بدوامة الاقتتال الداخلي والتقسيم الجغرافي ..

المفاجئة الأولى هو الاستعداد  المسبق للقوة الضاربة من فصائل ردع العدوان  وتخطيطها المنضبط لكثير من مراحل المعركة حتى كيفية إدارة العاصمة دمشق بعد سقوطها.

المفاجئة الثانية هي حصول كل هذا التحرير بدون اراقة الدماء ولا تدمير للمدن ولا هدم للمؤسسات ولا ترويع للسكان ولا تهجير ولا نزوح ولا انتقام.
تحرير سوريا بهذا الشكل الجميل ،كما كنا نقرأ فتحوتات أجدادنا ، وعلى أيادي هذه الفئة الخاصة من الثوار السوريين، أزعج الكثيرين وجعل سوريا الحرة بقيادتها الجديدة أمام تحديات كثيرة وعواق كبيرة ...

هذه التحديات منها ماهو خارجي ومنها ماهو اقليمي ومنها ماهو وداخلي...

فالغرب لايرجح نجاح أي نموذج اسلامي، ولا وطني ديمقراطي ،ولا حتى ديكتاتوري نهضوي تنموي ببلادنا...

التحديات الخارجية معروفة ولم تعد خافية على أحد ، فأمن اسرائيل ومتطلباته يأتي على رأسها..

وما محاولات العدو التي بدأها بقصف وتدمير كامل ،لكل ماتبقي من قواعد وأسلحة ومعدات الجيش السوري ، واحتلالها لمناطق جديدة من سوريا ، إلا تعبيراً عن رغبتها بتقسيم سوريا، وتدمير كل مقومات القوة والنهوض للادارة الجديدة.

قوات "قسد" بشمال شرق سوريا وسيطرتها على ثروات سوريا الهامة والإحتماء بالعلم الأمريكي ، مع رغبة جامحة للإنفصال وتقسيم سوريا ، مع تلطخ ايديها بدماء السوريين الأبرياء، واستمرارها بنقض العهود والمواثيق ، ومغازلة الغرب الذي يستخدمها ذريعة للتدخل بشؤون سوريا ، هي الاخرى من المطبات والتحديات التي تحتاج لحكمة وقوة وصلابة مع حنكة لحلها وتجاوزها..

شماعة الاقليات المشروخة التي يدندن بها الغرب، رغم ازدواجيته المفضوحة ، تجد هي الاخرى بعض ضعاف النفوس الذين يحلو لهم الإستقواء بالخارج للحصول على مكاسب داخلية صغيرة.
ويظل التحدي الأكبر برأيي هو التحدي الداخلي الداخلي ، هو الاستعجال بالمطالبة بالتشاركية بالادارة والحكم والقيادة..

كثير من القوى السياسة التي عارضت النظام وكانت جزء من الثورة السورية ، ترى أن استئثار القوة الفاتحة بالادارة الجديدة غير منصف لتضحياتها وتاريخها النضالي ، ويجب أن تكون هي جزء من أصحاب القرار والإدارة الجديدة ورسم مستقبل سوريا القادم.

وهكذا  أيضاُ ، ترى كثير من الشخصيات الوطنية المناضلة ، وكل من اعتقل وكانت له تضحيات مادية ومواقف نضالية من سجن أو تهجير أو لجوء ونزوح.

وكأن عدم وجودهم بالقيادة ومناصب الإدارة هو نكران ونقصان لكل جهودهم ونضالهم وتضحياتهم ..!!

بداية أود تذكير هؤلاء أن قياس هذه التضحيات  بالمنصب  المؤقت ، هو بخس وظلم لهذه المسيرة النضالية ، يكفيها أنها نالت كرامتها،  واستعادت سوريتها،  وحررت معتقليها وحرائرها ، وعادت الى بلادها منصورة بعد عقود طويلة...

هذه هي القيم الأولى التي يجب أن يقيس بها كل شخص تضحياته وكل ماقام به من عمل خلال ثورته.

هذا من ناحية ومن ناحية اخرى

أن كل منصف وعاقل يدرك حجم التحديات والإرث الثقيل ، والمؤسسات الفاسدة ، والبنوك الخاوية ، والسلاح الغير منضبط ، وكثرة فلول النظام المجرمين الذين يملكون السلاح وينتظرون الدعم الخارجي للبدأ بالثورة المضادة وبث القلاقل والاقتتال الداخلي واثارة النعرات الطائفية ..

ربما يكون  شيئاً مخيفاً ومرعباً تصور حال الوطن أمام هذه التحديات والثورة المضادة لو كانت قوة ردع العدوان غير منظمة وموحدة ومتفقة..!! 
كل هذا يجعل من الإنصاف أن يدرك عقلاء وحكماء  سوريا أن  فقه وترتيب الأولويات يستدعي تأجيل بعض المطالب وإن كانت محقة لكن ليس وقتها..

هذه المرحلة تحتاج فريق متجانس ، وتجانس الفريق من أبجديات النجاح بالعمل الإداري والقيادي،  حتى مدرب فريق كرة القدم يشترط أن يكون فريقه الخاص معه  ، وهكذا كل وزير يستلم أي منصب بأي وزارة في دولة مستقرة متقدمة ، فمابالكم بحالة مثل سوريا وامام كل هذه التحديات والحقول المليئة بالألغام أمام الإدارة الجديدة...!!

ثمة أمر آخر، أن حصر التشاركية بتقاسم السلطة ليس صحيحا بالمطلق،  فالتشاركية لها مجالاتها الكثيرة ، ومستوياتها المتعددة، حتى المعارضة بالدول المتقدمة تعتبر من التشاركية،  ولا حزب حاكم بدون معارضة، التشاركية يمكن أن تكون من خلال المعارضة وطرح الافكار ، ومن خلال تقديم الدراسات والمقترحات والتوصيات ، عن طريق الاحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والغرف التجارية والصناعية وحتى الاعلام وكتابة المقالات هو نوع من التشاركية والمشاركة  طالما الهدف هو بناء الدولة.

إلا اذا كان الهدف هو الحرص على المنصب والزعامة، وهذا ايضا يمكن تحقيقه من خلال الانتخابات القادمة التي هي الطريقة الوحيدة الحقيقية لمنح كل شخصية ومكون وتكتل وجماعة وزنها الشعبي الحقيقي . وهذا ما يجب أن يعمل الجميع عليه بعد استقرار سوريا وخروجها من عنق الزجاجة.وليس الآن ...

"من يحرر يقرر" مصطلح كثر الحديث عنه والإعتراض عليه واعتبره البعض كلمة حق أريد بها باطل ، لكن الخشية من الانزلاق وراء تفنيد المقولة،  والتركيز على افشالها كمن يسدد كل قواه لمحاربة غريمة الذي يسكن جار له بالطابق الخامس بالبناية ،ومن كثرة تركيزه على تحقيق الهدف الجزئي يقوم بهدم البناية كلها ثم يصحى من غفلته ليدرك أن بيته ايضاً  كان بالطابق الرابع  وقد تهدم مع البناية بحرصه واستعجاله...
وهذا ماحصل خلال مسيرة الثورة مع كثير من مؤسساتها..

أخشى ان يؤدي الحرص الزائد الغير منضبط الى وأد الثورة وتفتيت الوطن وتقسيم سوريا حيث لا ينفع بعدها الندم والاعتذار.

هذه الادارة الجديدة هي القوة التي كان لها نصيب الضربة القاضية وهي التي استعدت لسنيين طويلة من التدريب والتقشف والصبر والاستعداد بالخنادق وتحت الحصار وتهديد الروس ونيران العدو وتربص المليشيات الايرانية ، وضحت بالشهداء ، ودفعت هي أيضاُ ثمناً غالياً وتحقق النصر على سواعدها ، فهي قد نالت الشرعية الثورية والشعبية،  وماهذه الاحتفالات والاعراس والزيارات من كل دول العالم والمكونات الشعبية والسياسية والدينية إلا أكبر  دليلاً وتعبيراً وتصديقاً لهذه الشرعية الحالية...

كل هذه التضحيات يجعلها تستحق أن تعامل على الأقل كأي حزب فاز بالانتخابات بفارق أصوات قليلة..ومنحها فرصة النجاح بل ودعمها..

ومن مصلحة الوطن وحاسسية المرحلة أن تعطى فرصة ادارة المرحلة بفريق منسجم متعاون متفاهم..

المطالبة الحثيثة باشراك كل الطوائف والأقليات وتمثيل المكونات والهياكل السياسية أمر اشبه ما يكون بالمستحيل بأكثر دول العالم ديمقراطية ، وهي مثالية لن تجدها حتى بالمدينة الفاضلة وربما هي التي ينطبق عليها كلمة حق يراد بها باطل ...خاصة بالمرحلة الانتقالية..

لأنها تعبير بشكل مبطن عن المحاصصة وتقاسم السلطة وكأن سلبيات وويلات هذه النظرية ليست ماثلة أمامنا بدول مجاورة لنا وكأن المعارضة السياسية التي تطالب بها لم تتجرع سمومها بمؤسساتها وحكوماتها ...

تمثيل المواطن أمر لابد منه ، وشعور أي مكون بأن يجد نفسه  ممثلاً بإدارة الدولة الجديدة حق مقدس لا يمكن الاعتراض عليه،  وهذا أمر مختلف تماماً ، عما نقصده من استعجال للمحاصصة بحجة المشاركة والتشاركية وخوفاً من حكم اللون الواحد والإقصاء وغيره من معاذير لا تسمح المرحلة الحرجة بالدفاع عنها...

التمثيل السياسي والغالبية السياسية التي تحكم كل البلاد المتقدمة هي الطريقة الأمثل للتمثيل الحقيقي للمكونات والافراد،  وهذا يكون بعد الاستقرار وسن قانون الاحزاب وكتابة الدستور الجديد وليس المرحلة الانتقالية...

كل هذا لا يعني البتة أن تقصي الادارة الحالية الكفاءات من كل مكونات الطيف السوري الواسع ..

ولا أظن أن هناك أي نية لهذا فسوريا تحتاج لكفاءات كثيرة وكل هذه الكفاءات الحالية حتى التي تنادي بالتشاركية لن تكفي لسد هذه المناصب والمراكز ولكنه الاستعجال والاستبطاء الغير المنصف الذي بسبب حرصه واستعجاله ينسى أو يتناسى  صاحبه واقع الحال المخيف..

لقد انتصرت الثورة السورية انتصاراً لا مثيل له بالتاريخ،  لأنها اقتلعت نظاماُ مجرماً محترفاً مدعوماً واقتلعته مع جذوره وكل أذرعه وهذا شيء أكبر من الخيال.

وجاء دور البناء وهو المخاض الجديد والصعب على كل السوريين ..

هذه المرحلة المفصلية يستطيع السوريون تجاوزها وإعمار سورية بأسرع بكثير مما قد يخطر على بال كثير من علماء التخطيط والتنمية والبناء
لكن بشرط واحد وبدونه لن يكون هناك بناء ولا حتى سورية

الشرط الذي لن يكون اي بناء بدونه هو الاستقرار السياسي والأمني ...

لا يزال النصر خديجا بغرفة العناية المشددة

ويحتاح من كل  السوريين العقلاء تحكيم العقل والمنطق

وتغليب مصلحة الوطن على أي مصلحة شخصية أو حزبية أو قومية أو مناطقية

كي نحافظ على وليدنا ويكبر وينمو بعز وقوة وتصبح سورية قوية شامخة عزيزة وتعود مهد الحضارات والرقي والازدهار

فهل يعي السوريون ذلك!!؟؟

أم تسوقهم أطماعهم ويستعجلون منافعهم الصغيرة ويأدون ثورتهم ونصرهم بأيديهم ..!!؟؟

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس