
ترك برس
تناول تقرير للخبير والمحلل السياسي التركي قدير أوستون، تطور العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مع التركيز على كيفية تجاهل أوروبا للتحذيرات المتعلقة بالتهديدات التي قد تواجه التحالف عبر الأطلسي.
يسلط التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق الضوء على التحولات السياسية في الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب، والتي تؤثر بشكل كبير على مصير أوروبا في ظل السياسة الخارجية الأمريكية، وخاصة فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية والتهديدات المتعلقة بالأمن الأوروبي.
التحليل في التقرير يشير إلى أن أوروبا فشلت في إدراك حجم التغيرات الجيوسياسية والداخلية في المجتمع الأمريكي، ولم تتخذ الإجراءات اللازمة لتكون قادرة على مواجهة تداعيات هذه التغيرات.
كما يناقش التقرير المخاوف من أن أوروبا قد تتراجع إلى دور هامشي في المشهد السياسي العالمي بسبب تزايد عزلة الغرب وتحولات السياسة الأمريكية التي قد تُقيد دور أوروبا في أي مفاوضات أو اتفاقات مستقبلية، خاصة فيما يتعلق بالسلام في أوكرانيا.
وفيما يلي نص التقرير:
خلال الولاية الأولى لترامب، تجاهلت أوروبا التحذيرات بشأن تهديد التحالف عبر الأطلسي، لكنها واجهت الأسبوع الماضي نسخة أشد قسوة من هذه الرسالة. فقد جاءت التصريحات الصادرة عن مسؤولي إدارة ترامب، خلال اجتماع مجموعة الاتصال الدفاعية لأوكرانيا ومؤتمر ميونيخ للأمن، حاملة دلالات تتجاوز الحرب الأوكرانية وتمس مصير القارة الأوروبية نفسها. ويبدو أن أوروبا، التي حاولت تجاوز عهد ترامب الأول بالصبر، لم تستوعب بشكل كافٍ التحولات الجارية داخل المجتمع الأمريكي، كما أنها لم تتخذ الخطوات الاستثمارية اللازمة لمواجهة التطورات الحالية.
أوروبا خارج المشهد
إعلان ترامب استعداده للقاء بوتين وتبنيه مواقف متماشية مع الطرح الروسي شكّل إشارة واضحة إلى دخول الحرب الأوكرانية مرحلة جديدة. وخلال حملته الانتخابية، تعهّد ترامب بإنهاء الحرب فور فوزه بالرئاسة، كما انتقد المساعدات المالية الضخمة التي قدمتها واشنطن لكييف، واصفًا زيلينسكي بأنه "أفضل مندوب مبيعات" لهذه المساعدات.
وبحسب وسائل الإعلام الأمريكية، يبدو أن ترامب بات أكثر تقبلًا لفكرة تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا مقابل حصول الولايات المتحدة على مواردها من المعادن النادرة. والجدير بالذكر أن ترامب، الذي نجح في استقطاب الناخبين عبر رفضه تقديم المساعدات المجانية، سيركز لاحقًا على تأكيد أن أي اتفاق مستقبلي لن يكون لصالح الغرب، بل لصالح الولايات المتحدة وحدها.
تصاعدت المخاوف من احتمال انطلاق المفاوضات بين واشنطن وموسكو دون إشراك أوكرانيا وأوروبا، مما يعزز القلق من أن ترامب قد يفرض بنفسه شروط الاتفاق المقبل. وعلى الرغم من تأكيد وزير الخارجية ماركو روبيو أن كييف والدول الأوروبية ستكون جزءًا من أي عملية تفاوضية، إلا أن الدور الذي يمكن أن يلعبه القادة الغربيون في هذه المرحلة يبدو محدودًا. فترامب لا يفضل المفاوضات متعددة الأطراف، بل يؤمن بقدرة الولايات المتحدة على فرض شروطها، ولهذا يفضل الاتفاقات الثنائية. وعلى عكس بايدن، الذي يسعى لتعزيز التحالفات، يتبنى ترامب نهجًا يشوبه الشك تجاه الحلفاء، وليس من المستبعد أن يسعى لإخراج الأوروبيين من دائرة التأثير في المشهد السياسي.
تكمن أكبر مأساة في هذا المشهد في احتمال تراجع دور أوروبا إلى مجرد لاعب هامشي بلا تأثير حقيقي. فعلى الرغم من إعلان فرنسا وبريطانيا استعدادهما لإرسال قوات إلى أوكرانيا، فإن هذه الخطوة جاءت متأخرة للغاية. لقد اعتمدت أوروبا على شعار بايدن "أمريكا عادت"، لكنها لم تستعد بشكل كافٍ لاحتمال توقف المساعدات الأمريكية. كما أنها لم تبذل الجهود الدبلوماسية الكافية لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
فبينما تبنى بايدن سياسة "الدعم حتى النهاية" وسعى لعزل بوتين بوصفه "مجرم حرب"، افتقد هذا النهج إلى رؤية استراتيجية واضحة، ومع ذلك لم يجرؤ القادة الأوروبيون على الاعتراف بهذا الخلل. لقد قبلوا بأن تكون الولايات المتحدة في موقع القيادة دون أن يحددوا هم معايير السلام النهائي أو يلعبوا دورًا فاعلًا في رسم ملامحه.
صدمة الواقع
أما الولايات المتحدة بقيادة ترامب، فتوجه رسالة صريحة لأوروبا بأن الأمور لن تستمر كما كانت في السابق. فمن ملف أوكرانيا إلى توسع الناتو، ومن القضايا التجارية إلى تصاعد نفوذ اليمين المتطرف، تجد أوروبا نفسها اليوم في مواجهة نسخة جديدة من ترامب، ما يفرض عليها تحديات استراتيجية كبرى. والمفارقة أن المفاوضات التي قد تحدد مصير أوروبا الاستراتيجي من المتوقع أن تبدأ في الرياض بدلًا من أي عاصمة أوروبية، وهو تطور يحمل دلالات عميقة.
وإذا كانت أوروبا ترى في أوكرانيا جزءًا من معركتها الجيوسياسية للبقاء، فعليها أن تتعلم خوض هذه المعركة دون الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة. فمنذ الحرب العالمية الثانية، اعتادت أوروبا أن تتبع التوجهات الاستراتيجية التي ترسمها واشنطن، لكنها اليوم بحاجة ملحّة لاستعادة قدرتها على صياغة رؤيتها الخاصة وتعزيز دورها المستقل في الساحة الدولية.
من ناحية أخرى، يجب التذكير بأن ترامب، الذي لم يحقق النجاح الذي كان يطمح إليه في قضايا مثل كوريا الشمالية وإيران خلال ولايته الأولى، لا يملك أي ضمانة للنجاح في ملف أوكرانيا. فالاتفاق الذي يقضي بالاعتراف بالمكاسب الإقليمية لروسيا وإنهاء احتمال انضمام أوكرانيا إلى الناتو سيُعتبر انتصارًا لبوتين. في المقابل، سيرغب ترامب في إعلان أن أمريكا هي الفائز الحقيقي، بغض النظر عن تفاصيل الاتفاق. وعند الدخول في تفاصيل المفاوضات، لن يكون مستغربًا أن تتراجع خطابات ترامب التصعيدية لصالح اتفاق أكثر واقعية.
بمعنى آخر، سيعتبر ترامب أي اتفاق نجاحًا له، حتى لو لم يتطابق مع خطابه السابق، لكن في الوقت ذاته، يبقى احتمال فشل المفاوضات بسبب الضغوط الأمريكية على أوكرانيا لتقديم تنازلات أمرًا واردًا.
في هذه المرحلة، إذا ركّز الأوروبيون على إطالة أمد المفاوضات ومنع التنازلات التي قد يقدمها ترامب بدلًا من العمل على صياغة إطار سلام، فسيكون ذلك خطأً استراتيجيًا جديدًا. على أوروبا أن تدرك أن الخطاب والسياسات التي يتبناها ترامب، والتي تزعزع أسس التحالف الغربي، ليست مجرد مواقف مؤقتة، بل تعكس اتجاهًا يحظى بدعم حقيقي داخل المجتمع الأمريكي.
كما أن انتظار رئيس أمريكي جديد مثل بايدن ليس خيارًا واقعيًا. لذلك، يجب على أوروبا أن تتعلم الوقوف على قدميها في القضايا الأمنية والعسكرية الدولية. فهذه الضرورة لا تنبع فقط من "العلاج بالصدمة" الذي فرضته إدارة ترامب على أوروبا، بل يجب النظر إليها باعتبارها نتيجة طبيعية للتحولات الجيوسياسية الراهنة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!