
ياسين أقطاي - يني شفق
ليلة القدر، خصّها الله بفضائل عظيمة، إذ نزل فيها القرآن الكريم وجعلها الله خيرًا من ألف شهر، وورد أن الدعاء فيها مستجاب، ولذا تحظى هذه الليلة بأهمية خاصة لدى الجميع، فيزداد فيها الإقبال على العبادة والدعاء. وحتى الذين لم يصوموا الشهر كاملًا، يصومون نهارها بشكل خاص، ويؤجل معظم الناس زكاتهم وصدقاتهم إلى تلك الليلة.
ورغم أن وقتها غير محدد، إلا أن بعض الروايات ترجح أن تكون في العشر الأواخر من رمضان، لذا ينبغي أن نلتمسها في هذه الأيام العشرة. وقد بيّن رسول الله ﷺ أن هذه الليلة قد تكون في العشر الأواخر من رمضان. لذا كان رسول الله ﷺ يعتكف في هذه الأيام عادة ليدرك تلك الليلة بالعبادة.
فتأملوا حتى رسول الله ﷺ لم يطلعنا على هذه الليلة، وتقول الروايات إن الله تعالى أنسى سيدنا محمد ﷺ موعدها، وإن صحت فلحكمة إلهية وهي أن يجتهد المؤمن في العبادة، طوال ليالي شهر رمضان من جهة، ثم يضاعف من اجتهاده في العشر الأواخر منه حرصاً على التماسها، ورغبةً في أن يظفر بمصادفتها واغتنام خيراتها.
وقد أوضح الرّازي أن إخفاء ليلة الـقدر من السنن الإلهية التي تتجلى في العديد من الأمور حيث قال في تفسيره:
"إن الحكمة من إخفاء ليلة القدر عن الناس حتى يُعظّموا جميع ليالي العشر الأواخر في نفوسهم، فقد أخفى الله -سبحانه- اسمه الأعظم حتى يُعظّم المسلم كلّ أسمائه، وأخفى تحديد ساعة الإجابة في يوم الجمعة حتى يُعظّم العبد جميع ساعات هذا اليوم المبارك بالدعاء. كما أخفى الله -عزّ وجلّ- الصلاة الوسطى حتى يُعظم المسلم كل الصلوات، وأخفى موعد الموت لكي يخاف المكلّف ويُعظّم أمر حياته، فيستثمرها فيما يُرضي الله، وأخفى قبول التوبة ليُعظّم المرء أمرها ويبقى ثابتاً عليها، وهكذا كان إخفاء موعد ليلة القدر حتى يكون تعظيمها في النفس أبلغ وأشدّ تأثيراً." (فخر الدين الرازي، مفتاح الغيب، المجلد 23: 283-284)
وإن صح حجب هذه الليلة عن النبي ﷺ فلا شك أن ذلك لا ينقص من علمه أو مكانته، بل لحكمة إلهية خصها الله تعالى لهذه الليلة، حتى يبقى المسلم في حالة اجتهاد دائم ولا يحصر اجتهاده وعباداته في تلك الليلة. وتحريها بحد ذاته يكون عبادة، ولا يجب أن يتوقف المسلم عند أي أمر بقوله "لقد وصلت". بل يجب أن يستمر في العبادة والأعمال الصالحة ما دام يتنفس.
في الحقيقة، هذا تحذير قوي بأن كون المرء مسلمًا ليس فرصة أو رتبة أو حقًا يُكتسب مرة واحدة، بل يتطلب استمرارية في الاستحقاق.
ألم يكن هذا هو السبب في خسارة الأمم السابقة، اللذين سموا أنفسهم بـ "شعب الله المختار؟" فقد رأت تلك الأمم، أنهم مهما اقترفوا من معاصٍ، سيبقون أحباء لله وعباده المقربين. ومع مرور الوقت، أصبحوا متكبرين ومتعالين، وبدأوا يتفاخرون بتفوقهم المطلق على الآخرين. وكان هذا بذاته سببًا كافيًا لقيام الله بسحب أمانته منهم.
وقد شاء الله أن يعامل المسلمين بطريقة تعليمية خاصة كي لا يحدث لهم ما حدث للأمم السابقة. فبالإضافة إلى سلسلة من الدروس، كان إخفاء ليلة القدر ليتم البحث عنها في فترة زمنية معينة، والرغبة في إدراكها والاشتياق لها، جزءًا من المنهج التعليمي الخاص الذي يوجه المسلمين.
إن الله، الذي أنزل القرآن في ليلة القدر المباركة، ليلةٍ هي خير من ألف شهر، قد أخفى هذه الليلة عن نبيه الكريم لا ليحجبه عنها، بل ليكون ذلك رحمة للأمة، ويعلمهم أن النجاة لا تُنال بمجرد أداء بضعة أعمال صالحة، أو الاقتصار على إحياء ليلة بعينها، بل هي رحلة مستمرة من الجهد، والعمل، والتقوى. بل وأكثر من ذلك، فإنه يربيهم على هذا المنهج عمليًا، ويغرس فيهم روح الانضباط والمثابرة.
ولعل هذه هذه إحدى أبرز سمات الدين الإسلامي: أن الإنسان لا يستطيع أن يطمئن تمامًا إلى أعماله، ولا أن يعتمد عليها كليًا في نيل رضا الله. فالإسلام دين المسؤولية الفردية، حيث لا يحمل أحد وزر آخر، ولا يستطيع أحد أن ينجي غيره. وهذا المبدأ يتجلى بوضوح في قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها: "يا فاطمة، اعْمَلِي فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا". فالأعمال الصالحة مهمة بلا شك، ولكن لا ينبغي لنا أن نعتمد عليها تمامًا، بل يجب أن نبقى في حالة من اليقظة الدائمة، خوفًا من أن تتسلل إلى أعمالنا شوائب الرياء، أو الشرك الخفي، أو أي نوايا غير خالصة لوجه الله تعالى.
ولكن حتى هذه اليقظة ليست ضمانًا كافيًا، إذ إن هناك أعمالًا قلبية لا يدركها الإنسان تمام الإدراك، مما يستوجب منه مراجعة نفسه والتأمل في أحوال قلبه، ويحاسب نفسه، ويضعها أمام مرآة الحقيقة. فإلى أي مدى يمكن للإنسان أن يكون واعيًا بكل أحواله؟ إن هذا التساؤل يقود إلى توتر دائم، توتر لا يمكن تجاوزه بمجرد القيام ببعض الأفعال أو ترديد بعض الأذكار أو الانتساب إلى جماعة أو التقرب من الصالحين. إنه توتر يدفع الإنسان نحو الدعاء والعبادة.
والدعاء ليس مجرد كلمات، بل هو وسيلة لمحاسبة النفس، وللتأمل في الذات، وللتعرف على الله حق المعرفة، ولإدراك المكانة الحقيقية للعبد أمام خالقه. إنه حالة توازن بين الخوف والرجاء، بين الشعور بعدم الأمان التام من العذاب، وبين الأمل الدائم في رحمة الله التي لا حدود لها. ولولا الدعاء، لما كان للإنسان أي وزن أمام الله. وإذا تأملنا أدعية النبي ﷺ، نجد فيها درسًا لكل مسلم، فهي التي تُعرّفنا بالله، وتُظهر لنا مكانتنا الحقيقية أمامه، وتجعلنا نشعر بعظمته ورحمته.
لذا، لا ينبغي لنا أن ننتظر الليلة السابعة والعشرين فقط، بل يجب أن نكون على أهبة الاستعداد في كل ليلة من ليالي رمضان، لأن أي ليلة منها قد تكون ليلة القدر. فلنحرص على البحث عنها طيلة الشهر الكريم، ولنحمل في قلوبنا وعيًا بها.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين يُقَدِّرون ليلة القدر حق قدرها، ويهتدون إلى خيرها وبركاتها. آمين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس