إبراهيم قراغول - يني شفق

قوة جديدة، طالما غابت عن الذاكرة، بدأت بالتحرك في جغرافيتنا. هذه الموجة، التي كسرت المعادلة التقليدية المبنية على "الدول" و"المنظمات"، تتمثل في تحرك العشائر لإفساد كل الحسابات القائمة.

قد يؤسّس هذا لظهور نواة قوة جديدة في المنطقة. وربما يكون مقدمةً لصحوة "أبناء الجغرافيا الأصليين" الذين كُبتوا وأُقصوا طوال القرن العشرين. هي صحوةٌ للدفاع عن الأرض، وتمردٌ ضد خرائط الاحتلال التي شلّت الدول لعقود طويلة. هي موجة مواجهة جديدة ضد التوسّع الإسرائيلي والعدوان الأمريكي، تقودها قوة من خارج حسابات القوى التقليدية.

تجاوز كل الخطوط الحمراء.. العربدة، الوحشية، الوقاحة بلا حدود

حين حرّكت إسرائيل وأمريكا بعض الدروز، تدخل الجيش السوري. لكن واشنطن وتل أبيب أوقفتاه، وهاجمتاه، وهدّدتا باجتياح سوريا إذا تحرّك. دولةٌ كاملة جرى شلّها داخل حدودها، فيما تقصف إسرائيل حتى العاصمة دمشق دون رادع.

كلّ خطوط العربدة والوحشية والوقاحة والإجرام تمّ تجاوزها. دولةٌ ما تزال في طور التأسيس، جرى تقييد سيادتها وبدأ السطو على أراضيها علنًا. مشروع تفكيك سوريا باستخدام الدروز كأداة دخل حيّز التنفيذ.

الدول شُلّت، الشعوب نهضت، الغضب ينفجر

تتحرك إسرائيل مع الدروز لدمج خريطة احتلال الشمال السوري مع خريطة ميليشيا واي بي جي/بي كي كي، في محاولة علنية لتفتيت سوريا.

في وقتٍ عجزت فيه الأنظمة والدول عن كبح مجازر غزة أو منع الموت الجماعي جوعًا، لم تفعل شيئًا أيضًا تجاه سوريا. والهجوم على إسرائيل كان هو الخيار الوحيد، لكنه -بحسب منطقهم- لم يحن "موسمه" بعد.

عندها انطلقت فجأة قوة جديدة، كحلّ خاطف، كضربة برق. العشائر السورية تحرّكت من كل الاتجاهات. الغضب على مذابح الدروز المدعومة إسرائيليًا انفجر وتجاوز حدود سوريا.

تحرّكاتٌ في مصر، الأردن، لبنان، السعودية، العراق. بيانات تضامن. مطالب بفتح الحدود. حالة غليان شعبي عارم.

إسرائيل وأمريكا مذهولتان: يطالبون الآن بعودة الجيش السوري!

الذين شلّوا الدول، وحيّدوا سوريا، أصابتهم الدهشة. بعد أن كانوا يقولون "لا تدخلوا الجيش السوري إلى السويداء"، صاروا يقولون الآن: "دعوا الجيش السوري يوقف العشائر!"

الجغرافيا تشهد الآن انتشار موجة قوة جديدة. من يقف خلفها، أيًّا كان، فقد فتح لأوّل مرة منذ قرنٍ من الزمن بابًا جديدًا للخروج من هذا الانسداد التاريخي في منطقتنا.

السؤال الأهم: من يقف وراء هذه الموجة؟ هل هي تركيا؟ سوريا؟ أم عقل مشترك بين تركيا وسوريا وقطر؟ أيًّا كان، يجب أن يُرفع له التصفيق، لأنه حرّك قوة من خارج إطار "الدولة - التنظيم"، وأسقط الحسابات الأمريكية والإسرائيلية بالكامل.

استبدلوا العشائر بالمنظمات.. فدمرونا!

والآن إلى جوهر المسألة: لعقود طويلة، استخفّ البعض بالعشائر وسماها "بنية إقطاعية" أو "هياكل رجعية"، فشنّوا حملات تصفية بحقّها بدعم من أمريكا وإسرائيل والغرب، ليُقيموا بدلاً منها "عالم التنظيمات". وهكذا، دمّروا الجغرافيا.

صيغة "استبدال العشيرة بالتنظيم" كانت كارثة على كل البلدان. فالعشائر كانت محلية وأصيلة، أما التنظيمات فهويتها عابرة للحدود، أدوات للغرب، امتدادات للنفوذ الأجنبي.

لطالما ردد تنظيم بي كي كي والتيارات اليسارية في تركيا مصطلح "البنية الإقطاعية" كدعاية للتضليل، وصدّقها الجميع.

اليوم، وبعد فوات الأوان، أدركنا أننا خُدعنا، وأن التنظيمات حين صارت تهدد الدول الوطنية أدركنا مدى الخطر الذي تسببت به. فلا تنظيمٍ أُنشئ في منطقتنا كان محليًا أو وطنيًا. كلّها كانت أدوات متعددة الجنسيات، وظّفت كسلاح ضد شعوبنا ودولنا.

نعم، العشائر في أواخر الدولة العثمانية لعبت أدوارًا سلبية، وتحالفت أحيانًا مع الإنجليز، وتسببت بدمار. لا ننكر ذلك. لكن التحوّل اللاحق من العشائر إلى المنظمات، وإقناعنا به، كان خدعة استراتيجية كبرى... ولم نستفق لها إلا متأخرين.

مع من تفضّل الجلوس إلى الطاولة؟ مع العشائر أم مع إسرائيل؟

اليوم، على الأقل، تبقى العشائر محلية، مرتبطة بالأرض، متجذرة بالوطن، ويمكن التفاهم معها. أما عندما يتعلق الأمر بالتنظيمات، فإن الجلوس على الطاولة لا يكون إلا مع أمريكا، أو إسرائيل، أو بريطانيا.

منذ قرن، لم تكن العشائر هي من دمّر المنطقة، بل التنظيمات. فكلّ تنظيم مقره في لندن أو تل أبيب أو واشنطن أو عواصم الغرب. لذلك، حان وقت التحرر من خرافة "البنية الإقطاعية الرجعية" التي جرى ترويجها لتشويه قوى المجتمع المحلي وتجفيف مصادر مناعته.

يجب إغلاق مرحلة الترويج لجمل مثل "خطاب بي كي كي"، و"خطاب اليسار التركي"، التي مهّدت الطريق لمنظمات مثل بي كي كي و "واي بي جي" لتدمير البلاد.

15 تموز في تركيا أنقذته الأمة، لا الدولة.. واليوم في سوريا: الأمة هي العشائر

فلنتذكّر: في 15 تموز 2016، من أنقذ تركيا لم يكن الدولة ولا التنظيمات، بل الأمة. الدولة كانت مشلولة، والتنظيمات حاولت تنفيذ انقلاب باسم الغرب. لكن الأمة أنقذت الدولة والبلد، وأعادت الأمانة إلى أصحابها، وغيّرت مسار التاريخ.

في تركيا كانت "الأمة"، وفي العالم العربي اليوم هم "العشائر". العشائر هي جسد الأمة.

سوريا الآن تؤسس دولتها من جديد، بعد ثمن باهظ ومحاولات تمزيق. الدولة شُلّت، التنظيمات تعمل مع إسرائيل لتمزيق البلاد. العشائر هم القوة الحيّة المتبقية. هم الأمة.

لن يتوقفوا عند السويداء.. الزحف سيصل إلى حدود إسرائيل

إسرائيل وأمريكا بنتا كل نظرياتهما على فرضية "الدولة والتنظيم"، لكن ليس لديهما خطة للتعامل مع العشائر. ولذلك كانت هذه الموجة صادمة ومربكة لهما.

إذًا علينا استخدام هذه القوة. كسر هذا النمط. فالعشائر ليست مقيّدة بحدود الدولة ولا بقيود دولية. ستنزل إلى الميدان، ولن تتوقف في السويداء، بل ستمتد إلى حدود إسرائيل، تتحرّك في كل شبر من أرض الوطن.

هذا هو "15 تموز السوري". هذا هو التملّك الشعبي للدولة والوطن. علينا دعم هذه القوة، وتسليحها، وتمكينها. تركيا كسرَت كثيرًا من المسلّمات المفروضة في القرن العشرين. وها نحن الآن أمام مسلّمة أخرى تنهار.

الجغرافيا ليست قدرًا… الجغرافيا سلاح!

منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، كنت أكتب مرارًا: "الدول مشلولة. لا تتحرك. يجب أن يتدفّق عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من كل زاوية في الجغرافيا نحو حدود إسرائيل. لا يمكن لأي قوة إيقاف المدنيين الغاضبين".

وهذا بالضبط ما تفعله العشائر الآن. سيحاولون ترويجها كأزمة مذهبية، وسيسوّقونها كتهديد للدول. سيفبركون الأكاذيب ويشوّشون العقول. لكن من يخاف فعلًا هو إسرائيل. ولا يحقّ لنا أن نحمل مخاوف هذا الكيان القاتل على أكتافنا بعد اليوم.

القوى الحيّة في الجغرافيا يجب أن تُحرَّك. الشعوب، العشائر، المجتمعات، يجب أن تنهض للدفاع عن الوطن، وأن تتمسّك بأرضها ودولتها.

تذكّروا دائمًا: الجغرافيا ليست قدرًا… الجغرافيا سلاح. بل هي أقوى من السلاح النووي!

أطلقوا السلاح الشعبي.. وحاصروا إسرائيل في قلبها

الآن، فقط أحد هذه الأسلحة استُخدم. وعلينا جميعًا أن نتحمّل مسؤولية قلب مسار التاريخ. طالما لم يُمحَ وجود إسرائيل من خريطة الجغرافيا، فيجب أن تستمرّ هذه الموجة وهذه العاصفة.

يجب تحريك العشائر في كل أنحاء المنطقة. دعم التشكيلات المسلحة المحلية خارج الجيوش النظامية. يجب تحريك "أبناء الأرض" لمواجهة تنظيمات إسرائيل وأمريكا. يجب أن تتحوّل العشائر الغاضبة من مجازر الدروز إلى نواة قوة جديدة في مقاومة إسرائيل. يجب أن يتدفّق عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من كل دولة في المنطقة نحو حدود إسرائيل علنًا وسرًا.

يجب تزويد العشائر بكل أشكال الدعم المسلّح. تشكيل "جيوش شعبية" في الجغرافيا. عدم الخوف من التهديدات التي قد تنشأ عن ذلك. الاستثمار بثقة في كل وطنيّ صادق. إذا شُلّت الدول عن القتال، فلتقاتل الشعوب. فلتُرسل الدول جنودها وضبّاط مخابراتها إلى داخل حدود إسرائيل في ثيابٍ مدنية. فلتدخل "جيوش المهندسين" ضمن الجماهير.

يجب استخدام كل الوسائل غير المجرّبة، وكل أشكال العمليات السرّية لضرب إسرائيل داخل حدودها. ضرب إسرائيل يجب أن يكون الهدف الأول لكل عرق، وكل مذهب، وكل دولة، وكل فرد يعيش في هذه الجغرافيا.

وعلينا أن نُعلِن بصراحة: كل تنظيم أو عشيرة أو فرد يتحالف مع إسرائيل عدوٌّ للأرض، وخائن للوطن، وعدوٌّ لهذه الجغرافيا الكبرى.

فلينفجر الغضب، ولتتفجّر الكراهية! فقد حانت ساعة الحسم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس