ترك برس

تناول مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الاتفاق الذي أُبرم في مصر بين إسرائيل وحركة حماس بوساطة دولية، باعتباره محطة مفصلية تعكس تحوّلاً في موازين القوة الرمزية والسياسية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

يرى الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق أن الهدنة تمثل انتصارًا سياسيًا ومعنويًا للمقاومة رغم الخسائر الفادحة، إذ أجبرت إسرائيل على الجلوس إلى طاولة المفاوضات كندٍّ لا كمنتصر، وكشفت انهيار صورتها أمام الرأي العام العالمي.

ويُبرز أن حماس، من خلال صمودها وتضحياتها، أعادت القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الدولي ووحّدت الصف الفلسطيني خلف مشروع وطني جامع. كما يشير إلى أن الاتفاق لا يمنح إسرائيل حصانة من المحاسبة على جرائمها.

وفيما يلي نص المقال:

أسفرت المفاوضات التي جرت في مصر بين إسرائيل وحركة حماس، بمشاركة تركيا وقطر ومصر، عن توقيع اتفاقٍ أفضى إلى وقفٍ مؤقت للعدوان الوحشي الذي شنّته إسرائيل على مدى عامين متواصلين. ونقول "مؤقتًا" لأنّ إسرائيل لا تحترم الالتزامات ولا تصون العهود؛ فلدينا تجارب لا حصر لها تثبت أنها تُخطّط، حتى أثناء توقيعها على الاتفاقيات، لكيفية خرقها لاحقًا. فكثيرًا ما انتهكت التزاماتها قبل أن يجفّ حبر التوقيع عليها. وفي الوقت الراهن، يبدو أن آلية الضمان التي أُنيطت بكلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا وقطر ومصر هي الضمانة الوحيدة لإجبار إسرائيل على الالتزام ببنود الاتفاق. وقد أعلن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خليل الحيّة، أنّهم توصّلوا إلى هذا الاتفاق بعد أن تلقّوا من الدول الوسيطة ضماناتٍ بألا تستأنف إسرائيل حربها على غزة.

والجدير بالذكر أنه تم التوصل إلى اتفاق مماثل في 15 يناير الماضي. في ذلك الوقت، كان غالبية الأسرى لدى حماس على قيد الحياة، ولو أنّ إسرائيل التزمت به حينذاك، لحققت مكاسب أكبر بكثير مما رضيت به اليوم. غير أنّ طمعها في تحقيق المزيد من المكاسب عبر انتهاك الاتفاق دفعها إلى استئناف الهجوم، لتعود راغمة بعد تسعة أشهر إلى طاولة المفاوضات وهي في وضع أسوأ، فقد قتلت بهجماتها عددًا كبيراً من أسراها، وربما مات بعضهم جوعًا كما مات كثير من الغزيين تحت الحصار.

ورغم كل الخسائر الفادحة التي تكبدتها حماس، لا شك أن الاتفاقية تمثل نصراً كبيراً لها.

وقد يستهين كثيرون بهذه النتيجة ويرفضون اعتبارها انتصارًا، مُشيرين إلى الخسائر التي تكبدتها المقاومة. لكن هؤلاء لا يضعون في الحسبان الخسائر الإسرائيلية الهائلة، إنها أكبر بكثير من أي توقع وتتجاوز التوقعات التقليدية للخسائر. فعلى مدى عامين ترسَّخت صورة إسرائيل -شعباً وحكومة- في الأذهان كأكثر دولة مكروهة، ومُهانة، ومُفتَضحة، وهمجية في العالم. لقد شهدنا انهياراً تاماً للرواية التي بنتها على مدى 75 عاماً باستثمارات ضخمة في السياسة العالمية والإعلام والأدب، إنها هزيمةٌ نكراء. وإذا كانت القنابل التي سقطت على غزة تعادل قوة 10-15 قنبلة ذرية، فإن الضرر المعنوي والسياسي الذي لحقَ بإسرائيل أعظم بكثير. إن الحطام والدمار في غزة هو انعكاس لصورة إسرائيل في العالم، وعلى الجانب الآخر هناك حقيقة فلسطينية؛ غزة وحماس باتتا تكتسبان بعدًا عالميًا وقبولا متزايدًا.

أما البُعد الثاني الذي يتجاهله أولئك المُشككون في انتصار "حماس"، أو يعجزون عن إدراكه، فهو معنى الحياة والجهاد والنضال لدى الشعب الفلسطيني. ففي غضون عامين، جعلوا العالم بأسره يدرك حقيقة هذا النضال وتاريخه وطبيعته بكل تفاصيله. وكما كان يردّد أبو عبيدة دائماً "إنه لجهاد نصر أو استشهاد"، وكِلاهما يُعد فوزاً. ولأنهم ينظرون إلى الأمر بهذه الطريقة في كل مرحلة، لم يخسروا أبداً، وها هم اليوم يجلسون على طاولة المفاوضات بكل كرامة ووقار بعد سنوات من التهميش، محققين مكاسب عظيمة.

والثالث: تجاهلُ حقيقة أن الفلسطينيين كانوا يُقتَلون ببطء بموافقة ضمنية وصامتة من العالم بأسره، بعدما نجحت إسرائيل في تضليل العالم وتزييف الوعي العالمي. غير أنّ حركة حماس حوّلت القضية الفلسطينية التي كانت منسيّة ومهملة حتى في العالم الإسلامي، إلى قضية حرية وإنسانية تخصّ البشرية جمعاء.

وإلى جانب هذه المكاسب، ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها: وهي أن "حماس" – بوصفها حركة مقاومة – نجحت في توحيد جميع مكونات الشعب الفلسطيني في خطٍّ نضالي واحد، وأن ترسم مسارًا جامعًا للإرادة والمطالبة. وقد تحقق لها ذلك بفضل التعاطف الواسع الذي حازته على الصعيد العالمي، وبفضل المكانة القيادية التي تبوأتها داخل الساحة الفلسطينية بوصفها الصوت الأصدق لقيادة القضية بلا منازع. فالمطالب التي قدمتها في اتفاقيات التبادل السابقة والاتفاق الحالي، والتي تضمنت الأسرى من الفصائل الفلسطينية الأخرى وليس أسراها فقط، وحّدت عملياً جميع مكونات القضية الفلسطينية.

وبفضل نضالها وما قدّمته من تضحيات، تم الاعتراف "الدولة الفلسطينية" من قبل العديد من الدول في المرحلة الأخيرة. ولا أهمية في هذا الصدد لكونها لن تشغل موقعاً في مؤسسات هذه الدولة المعترف بها أو في إدارة غزة. فقد رفعت سقف النضال إلى مستوى ومحتوى لا يستطيع أي طرف فلسطيني سيخلفها في إدارة غزة أن يتنازل عنه. كما أن هذا الواقع يُشير إلى أفق سياسي جديد قد يمكّن من ردم الهوّة بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ولا شك أن هذا الأفق سيشهد بروز تشكيلات سياسية جديدة داخل الساحة الفلسطينية.

إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه ليس بحالٍ من الأحوال استسلامًا من حماس، بل هو اتفاق جلست فيه الحركة على طاولة المفاوضات كطرف مساوٍ، دون أن تُهزم أو تنكسر إرادتها، رغم الخسائر الفادحة التي تكبّدتها. فإسرائيل، التي بدأت هذه الحرب قبل عامين واضعة نصب عينيها هدفين رئيسيين، فشلت في تحقيق كليهما. صحيح أنها استطاعت أن تغتال بعض القيادات بطرقٍ غادرة أشبه بأساليب التنظيمات الإرهابية، لكنها لم تتمكن من القضاء على حماس، ولم تستطع استعادة أسراها إلا عبر التفاوض. والأسوأ من ذلك أنها ستتسلّم الآن جثامين معظم أسراها الذين قتلتهم هي نفسها تحت قصفها الوحشي.

كما أنّ هذا الاتفاق لا يمنح إسرائيل حصانة من الملاحقة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها. فالقادة الإسرائيليون، وسائر المتورطين في هذه الجرائم، سيظلون يشعرون بسيف العدالة مسلطاً على رقابهم جراء ما ارتكبوه من جرائم. وفي الواقع، من مقتضيات العدالة أن تُلزم إسرائيل بدفع تعويضات عن الدمار الذي ألحقته بغزة، وهو أمرٌ سيُطرح عاجلاً أم آجلاً. ومع ذلك، فإنّ تولّي بعض الدول الإسلامية مهمة إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل يُعدّ من أكثر الجوانب المجحفة في هذا الاتفاق، لكن الواقع الدولي الراهن، في ظل حماية واشنطن لتل أبيب، لا يسمح للأسف بوجود توازن قوى يفرض ذلك عليها الآن.

ختامًا، نسأل الله أن يجعل هذا الاتفاق والهدنة خيرًا وبركة. لقد عانى شعب غزة معاناةً تفوق الوصف، بينما اكتفى العالم بالمشاهدة، في وقتٍ خضع فيه الجميع للهيمنة الصهيونية اللاإنسانية، بل تسابق فيها الجميع إلى التكيّف معها. لقد وقفت حماس وحدها، بإيمانها وصبرها وثباتها، دون أن تتلقى دعمًا عسكريًا من أحد، لتقوم بإخضاع تلك الهيمنة نيابة عن الإنسانية جمعاء، وتُشهد العالم على تحقيق وعد الله. نسأل الله أن يبارك هذا النصر.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!