ولاء خضير - ترك برس
يلاحظ كل من زار تركيا أن الأتراك يُولون اهتمامًا خاصًا لكل ما هو متعلق بـ"مولانا"، وينبع التعلق به من مبدأ ديني تاريخي، وهم أيضا يألفون رقصة الدراويش الدورانية الصوفية ، ومن يؤدون هذه الرقصات هم أتباع العصر الحديث لمولانا جلال الدين الرومي، ويطلق عليهم "المولوية"، وفي الغرب يعرفون باسم "الصوفيّة".
والصوفيّة، هي مدرسة فكرية دينية إسلامية، مستوحاة من فكر الشاعر، والمفكر الإسلامي جلال الدين الرومي، الذي وُلد عام 1207 في أفغانستان، وعاش وتوفي عام 1273 في محافظة "قونيا" بتركيا، حيث يتواجد ضريح ومتحف جلال الدين الرومي .
وتعود أصل الحكاية في القرن الثالث عشر، حيث شهدت الحضارة الإسلامية التي كانت بعز أوجها وازدهارها غزو المغول، بقيادة جنكيز خان، وعملوا على تدمير الحضارة الإسلامية، وكانوا يسعون إلى تدمير المكتبات، وحرق الأوراق والكتب، وبذلك يمسح التاريخ الإسلامي .
ولاذ حينها الأتراك البدويين بحياتهم، هربا من إبادة المغول، وكان من الأتراك محاربين، ومثقفين، وأهل علم، وورع، وتقوى، وارتحلوا واستقروا نهاية في الأناضول، وكانوا رواد في تطور الحضارة الإسلامية.
وبالتزامن تماما في قلب الغزو المغولي، وُلد محمد جلال الدين سنة 1207م، في بلدة "بلخ" الواقعة داخل حدود أفغانستان، كان والده بهاء الدين وَلَد، الملقب بـ"سلطان العلماء"، وهو صوفّي، وعالم دين، وكان لمواعظه ودروسه آثار كبير في بيئته، وإثر هجمات المغول، وتعارض فكر الفلاسفة حول فكر تصوف بهاء الدين، قرر مغادرة "بلخ".
ولما قرر بهاء الدين الهجرة برفقه أسرته، كان جلال الدين يبلغ 5 أعوام، ووصلوا إلى الكوفه في العراق، ثم أدى مناسك الحج في مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، ثم واصل مسيرته، ومر بالقدس وبلاد الشام، وكان هدفه الوصول إلى ديار الروم، حيث الأناضول، وهي البلاد التي أطلقت عليه اسم "الرومي".
وبعد رحلة استغرقت 13 عاما، استقرت عائلة محمد في "قونيا" التركية، إثر دعوة أطلقها السلطان السلجوقي علاء الدين لبهاء الدين، للقدوم إلى "قونيا" بعدما سمع عن شهرته.
وكان محمد جلال الدين يتلقى العلوم الدينية، والدنيوية، من والده بهاء الدين، وبعدما تُوفى والده، استلم محمد مكانة أبيه، ورافق برهان الدين الترمذي، وتتلمذ محمد على يده، وكان يعتبره مرشده الأول.
وعلى الرغم من صغر سنّ محمد، إلا أن استاذه أدرك أنه عالم، فأرسله في جولات إلى حلب والشام حتى يزداد علما، فأخذ من علماء الشام علوم الفقه، والحديث، والصرف، والنحو.
ثمّ عاد جلال الدين إلى "قونيا"، وتعلم فيها الشريعة، ومبادئ الدين، والتوجيه الروحي، واستمر محمد بأخذ العلم من أستاذه الترمذي على مر سنين كثيرة، حتى بات من علماء الشريعة الإسلامية، وكان يرى في الشريعة غاية لتحقيق الأوامر الإلهية، وتعمق بالتقرب إلى الله.
بعدها غادر أستاذه برهان الدين "قونيا"، فبقي محمد وحيدا، وطاف العالم الإسلامي يبحث عن رفيق له بعدما خسر والده وشيخه، فالتقى بشمس الدين التبريزي، ووجد فيه الأب الروحي، وجالسه سنين، وليالي طويلة.
ويعد ديوان شمس تبريزي، أشهر ما كتبه جلال الدين تخليدًا لذكرى تبريزي، وإخلاصا لصديقه شمسُ الدِّين تبريزي، الدرويش، صاحب الملابس المتواضعة، والذي كان يعرف باسم "الغريب" في مدينة كونيا، والديوان يشمل مجموعة أناشيد، وقصائد تمثل الحب والأسى، وإنْ كانت في جوهرها تنشد الحب الإلهي المقدس.
وملأ جلالُ الدين قونيا وما حولها بعلمه، فنشر بها دروسه في الفقه والعقيدة، وفي أيام كثيرة كان يترك دروسه في المسجد، ويعكف في بيته، ثم يخرج للناس، ويرقص في الأسواق رقصته الدرويشية "المولوية"، وكتب أشعارًا، ومقولات تعتبر من أبدع ما كتب في تاريخ الإنسانية.
وروي عن جلال الدين "قواعد العشق الأربعين" التي ترجمت إلى لغات مختلفة، واشتهرت حول العالم.
ويعتبر جلال الدين الرومي هو من أسس في تركيا "الطريقة المولوية- أوالصوفية"، ونظَّمها بعد وفاته ابنُه الأكبر سلطان وَلَد، ومن سماتها وخصائصها التي عُرفَتْ بها الرقص المعروف أو السماع، الذي أعطى الأعضاء اسم "الدراويش الدوَّارين".
وكانت قونية المقر الأول للطريقة، ومنها انبثقت التكايا؛ وصار السلاطين والأمراء هم الذين يبنون التكايا منذ القرن العاشر الهجري، وفي عهد السلطان سليم الثالث، شهدت الطريقة أوج مجدها وانتشارها، ولم تكن المولوية تميِّز بين الأديان والمذاهب، بل ترفض التعصب وتنبذه.
ولكن وفي عام 1925 مُنعت تكايا الصوفية من قِبل الحكومة التركية في عهد أتاتورك، في محاولة لنقل البلاد إلى المنهج العلماني، وبعدها ابتداءًا من عام 1953، سمحت الحكومة التركية للمولوية الدراويش بتقديم رقصاتهم في العروض العامة في "قونيا"، حيث ان التكيات المولوية في تركيا، تابعة للحكومة التركية حاليًا.
ويُعَد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوَّارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية في تركيا، وهو طقس له رمزيته، فالقبعة المخروطية التي يعتمرها الدراويش اسمها بالتركية "سيكيه"، وفي بلاد الشام تدعى "بالكلّة"، تمثل شواهد القبور، في دلالة رمزية إلى موت الأنا والغرور، والعباءة السوداء لها دلالة على القبر، والصدرية البيضاء هي الغرور بحد ذاته.
ومن المعروف عن أتباع الطريقة المولوية، تسامحهم ولطفهم والتزامهم، فالمولويون هم أناس طبيعيون، كأي إنسان آخر، بعضهم طلاب ويدرسون، وبعضهم موظفين، والبعض الآخر من رجال الأعمال، ولديهم مهن "دنيوية" كما يصفونها.
ويذكر أنه في منتصف ديسمبر من كل عام، يتجمهر آلاف من الناس، وخاصة في "قونيا"، لرؤية عروض الدراويش المولوية، ويحضر هذه العروض والاحتفالات أهم رجالات الدولة، مثل الرئيس التركي، ورئيس وزراء الحكومة التركية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!