د. زبير خلف الله – خاص ترك برس
انتخابات عابرة للحدود
نتائج الانتخابات التركية لم تكن حدثا محليا عابرا فقط بل تجاوز تأثيرها حدود تركيا ليصل الى كل أصقاع العالم، ويجلب أنظار الرأي العالمي والدولي حول أهمية هذه النتائج التي ستعيد صياغة خارطة جيوستراتيجية جديدة في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، وتنطلق بتركيا نحو الاستمرارية في مشروعها الاصلاحي الذي بدأته منذ سنة 2002 بقيادة رجب طيب أردوغان.
فوز حزب العدالة والتنمية خلط أوراقا كثيرة لأولئك الذين أسعدهم تراجعه في الانتخابات السابقة، وباتوا يترقبون الفرصة من أجل الانقضاض عليه أو على الأقل ابتزازه حتى يتم الإجهاز على مشروع تركيا الكبرى الحضاري الذي ينظر إلى سنة 2073 وليس إلى أرنبة أنفه مثلما يفكر أعداؤه من دعاة الاستبداد والفساد خصوصا في المنطقة العربية.
لذلك جاء هذا الانتصار الساحق انتصارا بطعم التحدي ومواجهة كل مشاريع تركيع تركيا إلى الأوامر الأمريكية وإلى الأجندات الاستعمارية التي تريد أن ترسم خارطة جيوستراتيجية في المنطقة وتقسمها وفق مصالحها الاقتصادية، وتهمين على مقدرات الأمة التي نهضت من جديد، وتدفع ثمنا غاليا من أجل بناء مشروعها التحرري الحضاري الذي ينضوي تحته كل أبناء هذه الأمة الشرفاء مهما اختلفت أفكارهم وإيديولوجياتهم وانتماءاتهم.
لذلك جاء انتصار حزب العدالة والتنمية مفعما بروح التحدي لكل من يريد أن يوقف قطار الإصلاح التركي الذي ظل متعطلا سنوات طويلة بعد انهيار الدولة العثمانية، كما أن هذا الانتصار هو تحد لأجل أولئك المشردين والمحرومين والمظلومين في أمتنا العربية والإسلامية التي لازالت جراحها تنزف أنهارا بحثا عن الحرية والعدالة والحياة الكريمة. انتصار يبعث أملا جديدا نحو الاستمرار في مشروع الولادة الحضارية الجديدة التي مات من أجلها الاف الأحرار على مدار قرون طويلة.
لا أتحدث هنا من منطلق عاطفي وإنما أتحدث من وقائع عشتها وأعيشها مع التجربة التركية التي انطلقت منذ 2002 وسط تحديات محلية وإقليمية ودولية، واستطاعت تشق طريق نجاحها بكل تحد وبكل ثقة في النفس. هي تجربة تستحق من أبناء المشروع التغييري العربي أن يستفيدوا منها، وأن ينسجوا على منوالها، ويستلهموا منها قيم التحدي والإصرار على شق طريق النجاح رغم الصعوبات والتحديات وعدم السقوط في وسط الطريق أو التنازل عن حلم الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية.
الانتخابات التركية: ملاحظات استوقفتني
من أهم ملامح هذه الانتخابات أن الشعب التركي تميز بنضج سياسي وحس وطني وحب لبلدهم جعل نسبة المشاركة في الانتخابات تتجاوز 85%، وهي نسبة لم نجدها في أي انتخابات وقعت على وجه الأرض. هذه المشاركة العالية دلت بشكل واضح على أن عملية التحدي التي قادها حزب العدالة والتنمية من أجل مشروع تركيا الكبرى لم تكن نخبوية أو ضعيفة السند إنما هي تجربة تنطلق من عمق الشعب التركي الذي آمن بضرورة التغيير الحقيقي، وبناء وطن مشروع تركيا الحرة المستقلة. لقد أبهر الأتراك بمشاركتهم العالية كل العالم وأعطوا دروسا كبيرة لكل الشعوب بأن يتخلصوا من حالة سلبيتهم والمشاركة بقوة نحو بناء حلم الوطن الحر الذي نطمح أن نعيش فيه.
الملاحظة الثانية التي جلبت انتباهي في هذه الانتخابات أنه رغم حدة التنافس والتراشق والتلاسن الذي وجد بين الأحزاب السياسية إلا أنه في النهاية هناك احترام من قبل الأحزاب غير الفائزة التي أعلنت عن احترام قرار الشعب وإرادته، واحترام صناديق الاقتراع ولم تبد أي تشكيك في الانتخابات. وهذا يجعلنا نحن كنخبة سياسية عربية أن نستفيد فعلا من هذا النضج السياسي وتحمل المسؤولية حفاظا على استقرار البلد ونموها وتطورها وحفاطا على المكتسبات الديمقراطية التي حققتها الشعوب بعد الثورة على أنظمة القمع والاستبداد.
الملاحظة الثالثة تتمثل في تواضع المنتصر أمام المهزم، واعتبار أن هذه النتائج لا يوجد فيها منهزم بل كل الشعب التركي هو المنتصر، وأن هذه النتائج هي بداية جديدة لإزالة مشاعر الحقد والكره والضغينة ، وهي نتائج تستدعي من كل شرائح المجتمع التركي إلى التعاون والتكاتف نحو بناء تركيا الكبرى والحفاظ على المشروع الاصلاحي الذي انطلق وسط ظروف تاريخية وتحديات إقليمية ودولية صعبة جدا.
لقد كان خطاب رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في منصة مقر حزب العدالة والتنمية في أنقرة أمام مناصريه علامة فارقة ومتميزة على تواضع المنتصر أمام المنهزم، كما عكست كلماته البعد الأخلاقي السياسي الذي يتحلى به هذا الرجل وحزبه. وهذا في الحقيقة يجعلنا نحن كنخبة سياسية نعيد فهمنا من جديد لطبيعة الممارسة السياسية ونضعها في سياقها القيمي والأخلاقي دون الدخول في تجاذبات تتجاوز حدود الأخلاق.
الملاحظة الرابعة تتمثل في كيف استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحول هزيمته في انتخابات 7 حزيران، ويقوم بعملية نقد ذاتي لأدائه وأسلوبه وخطابه والوقوف على أهم الإخلالات التي كانت سببا في هزيمته في الانتخابات السابقة. تقييمه الموضوعي لذاته ولأخطائه مكنه من وضع استراتيجية جديدة فعالة مفعمة بالتحدي والايمان بالنجاح والإصرار على مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والدولية.
لقد كانت كبوة انتخابات 7 من حزيران فرصة جديدة لتحقيق انتصار أكبر وساحق لم يتوقعه حتى أبناء حزب العدالة أنفسهم، لكن الإيمان بالمشروع والاخلاص للفكرة وللوطن والإصرار على النجاح كانت أسبابا مهمة جدا في تحقيق هذه النتائج الساحقة والصادمة لأعداء تركيا في الداخل والخارج. وهذه الروح المفعمة بالتحدي والإصرار والإيمان والإخلاص يمكننا الاستفادة منها لبناء مشروعنا الإصلاحي التحرري وتحويل كل النكسات والهزائم التي منينا بها إلى انتصار يؤسس لدولة حرة ديمقراطية، ويبني وعيا ناضجا لدى كافة شرائح المجتمع.
ماذا يعني فوز حزب العدالة والتنمية؟
شكل فوز حزب العدالة والتنمية انطلاقة جديدة للمشروع الحضاري الذي انطلقت به تركيا منذ 2002 حين وصل الحزب إلى سدة الحكم، وشكل منعطفا جديدا في المشهد السياسي التركي الذي وصل الى حالة الانحدار ودخول تركيا في نفق مظلم مجهول.
فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات الإعادة اليوم يرمز الى أن الشعب التركي يبعث برسالة ليس الى الداخل التركي فقط وإنما أيضا إلى كل العالم مفادها أن هذا الشعب مؤمن بالمشروع الصلاحي التقدمي، وأنه اختار حزب العدالة والتنمية للتعبير عن وقوفه معه في المشروع الحضاري وتركيا الكبرى التي ستقود المرحلة القادمة في منطقة الشرق الأوسط بكل أريحية رغم حجم التحديات ورغم التآمر الداخلي والإقليمي والدولي.
فوز العدالة والتنمية أمل جديد وصفعة كبيرة لدعاة الاستبداد والانقلاب في العالم العربي وفي كل بقعة من العالم. سيكون هذا الفوز دعما جديدا للربيع العربي ولنهضة التحرر العربي في معركتها مع الاستبداد والاستعمار، كما أن هذا الفوز هو فرصة ومناسبة مهمة لأبناء المشروع التغييري العربي للاستفادة من التجربة التركية والنسج على منوالها من أجل تجاوز حالة الانسداد في الأفق والتخبط في صراعات لم تعد على المنطقة الا بالخراب والدمار، وباتت لغة التصادم هي المتحكمة بدلا من الإنصات لصوت العقل والإخلاص للوطن ولمبادئ الحرية والعدالة والتنافس النزيه.
انتخابات تركيا صفعة لمحور الاستبداد
لا شك أن فوز حزب العدالة والتنمية أزعج المحور المعادي للربيع العربي في مصر وفي دول أخرى لا تريد لهذه الأمة أن تنهض وصادرت أفكارها وانقلبت على إرادة الشعوب ورهنت أوطانها لدى الصهاينة و دعاة القتل والتدمير ونهب خيرات أمتنا. وقد نتساءل كيف يشعر السيسي الانقلابي بفوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات وصلت نسبة مشاركة الشعب فيها إلى 87% ، وفاز فيها هذا الحزب باستحقاق وعلى مدار سبعة محطات انتخابية حقق فيها أغلبية ساحقة، و أثبت فيها هذا الحزب قوته وديناميكيته.
كيف للطغاة ودعاة الاستبداد أن يتحدثوا وقد رفضهم الشعب المصري الذي قاطع الانتخابات المصرية الأخيرة التي وصلت فيها الانتخابات إلى 4%. شتان بين زعيم ينتخبه الشعب بنسبة 49% وبين انقلابي يرفضه الشعب بنسبة 96%!!!.
اختيار الشعب التركي لحزب العدالة والتنمية كان نابعا من وعيه الوطني بضرورة اختيار من يحكمه، ويبعث برسالة إلى من ينقلب على إرادة الشعوب ويقول له: لا لدعاة الاستبداد ولا لقتلة الشعوب و الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء.
انتخابات تركيا صفعة كبيرة للذين تآمروا داخليا وإقليميا ودوليا حتى يضعفوا هذا الحزب، ولكن الله خيب آمالهم ومنح الأمل من جديد الى دعاة الحرية والعدالة والديمقراطية وبناء المشروع الحضاري الذي آمن به الشعب التركي والشعوب العربية وكل الأحرار في أصقاع الأرض.
الانتخابات التركية تجعلنا نعيد مفاهيمنا السياسية ونقد أفكارنا وبرامجنا والالتزام باخلاقيات العمل السياسي والوفاء إلى مبادئ الحرية والعدالة والاخلاص للوطن واحترام إرادة الشعوب مهما كان اختيارها. انتخابات علمتنا كيف يمكن أن نحول الهزيمة أو الفشل إلى انتصار إذا قيمنا أنفسنا موضوعيا، وحددنا بشكل علمي نقاط ضعفنا وأخطائنا وسعينا إلى إصلاحها بشكل حقيقي وواقعي وموضوعي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس