شمس محمود - خاص ترك برس
شأني كشأن جيل الثورة لم أكن أود أن يتدخل لا الأمريكان ولا الغربيون ولا الأتراك في أي من قضايانا ولكن هذا النظام المجرم كداعميه أبى إلا ذلك.
في آذار/ مارس بدأت الثورة وفي مارس فاز العدالة والتنمية بالانتخابات. في 18 مارس وعلى إثر حادثة اعتقال الأطفال المشهورة انطلقت مظاهرات حاشدة في درعا جنوب سورية شارك فيها المئات احتجاجًا على الاعتقالات والقمع والفساد وتنديدًا ببعض رجال الدولة من بينهم رامي مخلوف وعاطف نجيب الذي رفض مطالب أهل درعا بإطلاق سراح أبنائهم، وقد قابل الأمن هذه المُظاهرات بإطلاق الرصاص الحي مما أدى إلى سقوط 4 قتلى وعدد من الجرحى وكانت هذه بداية الثورة السورية الحقيقية بعد إرهاصات أولية منذ مطلع العام 2011.
بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر كان حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان يحتفل بالفوز فى انتخابات 2011 كانت نسبته حوالي 50%، وقتها هتف أردوغان "إن هذه الانتخابات هي نصرٌ للشعب التركي، وعندما تنتصر أنقرة تنتصر رام الله والقدس ودمشق".
دعت تركيا النظام إلى الإصلاح منذ انطلاق الثورة التي انطلقت في أثناء الإعداد التركي لانتخابات عام 2011، والتي يريد العدالة والتنمية منها - أي الانتخابات - انطلاقة جديدة لتركيا جديدة مع المحافظة على مكتسبات الحزب والنظر إلى التغير العالمي المنتظر فى حال نجاح "الربيع العربي".
صعّد النظام المجرم فى سوريا من تعامله الإجرامي أصلا مع الثورة السلمية، والذي لم يكن وليد اللحظة أو الحدث بل منذ استيلاء هذه العائلة "المقيتة الفاسدة" على الحكم وسجل جرائمها وانتهاكاتها معروف للحليف قبل العدو، ومنه مجزرة حماة وسجن تدمر وغيرها من المجازر، ناهيك عن الاعتقالات والتعذيب والاغتصاب والذل الذي لم يغادر أجواء ذلك البلد الذي تحكمه الأقلية بهذا الشكل الهمجي قبل الثورة.
ونتيجة للتصعيد الإجرامي للنظام أمام سلمية الثوار واستخدام النظام كل أسلحته ضد العزل بداية من المدفع حتى الشبيحة بدأت نواة الانشقاق "المنظم" على يد المقدم البطل حسين الهرموش الذي شكلت نواة انشقاقة بداية روح جديدة للثورة السورية، الانشقاق الذي أزعج النظام وداعمية (إيران وروسيا والصين).
انشقاقات كبيرة تحصل في جسر الشغور وتوسيع العملية العسكرية فيها، والجيش ينشر دبابات في معرة النعمان وأريحا، اتخذ النظام اجراءات لمواجهة الانشقاق ومواجهة ثورة الشعب السلمية واستخدمت الهيلوكوبترات والدبابات لقصف المدينة، هاجر الأهالي إلى تركيا، وتحدثوا عن أن معظم رجال الأمن الذين شاهدوهم كانوا من إيران.
فى 24 من حزيران/ يونيو تزيد المظاهرات التى وصل عدد المشاركين فى ساحة الشهداء مثلا إلى 200 ألف ووصل عدد اللاجئين السوريين إلى تركيا وقتها إلى 11 ألف تقريبا.
لم تهدأ الإنشقاقات داخل الجيش السوري حتى انشق العقيد رياض موسى الأسعد بنهاية شهر تموز/ يوليو برفقة مجموعة من ضباط الجيش السوري، وقد أسسوا “الجيش السوري الحر”، وحددوا له هدفا هو إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد وحماية الثورة. ثم توالت الانشقاقات الكبيرة فى الأعداد والرتب العسكرية والدبلوماسية والانضمام إلى الجيش الحر.
صعدت الدبلوماسية التركية فى المقابل بعد المحاولات الإصلاحية إلى قول أردوغان رئيس الوزراء آنذاك فى لقاء مع الجزيرة فى شهر أيلول/ سبتمبر إننا أمام الأسد الذي يوشك أن يفقد مشروعيته. وصولا إلى قول أردوغان فى تشرين الثّاني/ نوفمبر موجها خطابه للأسد: تنحّ عن السلطة قبل أن تراق مزيد من الدماء، حتى الحديث في لقاء صحفي مع أوباما عن ضرورة رحيل بشار الأسد.
وهنا ربما رأت أمريكا والغرب ومعهم تركيا فى صعود قوة الجيش الحر مع الانشقاقات الدبلوماسية أن رحيل الأسد أضحى وشيكا وأنه يمكن السيطرة على طلبات الجيش الحر الفقير سياسيا، إذ أنه عسكري صرف تسهل المراوغة مع مطالبه التي تتمثل فى رحيل الأسد ثم التوافق على من يأتي خلفه، وهي اللعبة التى دائما ما تطرحها أمريكا كما فعلت مع المجاهدين الأفغان من قبل وكما حدث مع من تصدروا المشهد بعد نجاح الثورة المصرية فى الإطاحة برأس مبارك بقبولهم دخول رجال مبارك (رجال النظام) العملية السياسية، بداعي أن الشعب قادر على الفرز وهى فرصة كبيرة لكي يستطيع رجال النظام السابق تنظيم صفوفهم، وهو ما حدث مع الثورة اليمنية والتونسية وخصوصا بعد الانقلاب العسكري فى مصر الذي أثر بشكل ضار جدا على مسار باقي الثورات فأصبح البحث عن دولة الاستقرار وليس البحث عن دولة ما بعد الهيمنة الغربية أو دولة ما بعد الثورة.
تمت عرقلة هذه الخطة "الاستقرارية" التواطئية مع صعود المقاومة الشعبية، فبعدما دفع النظام السوري بحلفائه من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله ومرتزقة أفغانستان والعراق وهتفوا هتافاتهم الطائفية وساند النظام دوليا وماليا كلا من روسيا والصين ووقف العالم متفرجا على دم الشعب السيال ونداءات السوريين المتكررة بعد مجازر النظام المتكررة التى قابلها أمين عام الأمم المتحدة باستنكاره الذي يضمن مزيد من القتل دون رادع قرر الجميع حمل السلاح فى وجه هذه التدخلات التى تستهدفهم فكانت مقاومة متنوعة الأفكار والمشارب متحدة في الهدف وهو إسقاط النظام مختلفة على ماهية دولة الحرية التى ينشدون مع نظرة كثير من المعارضة السياسية للحل الأمريكي بأنه حل التفافي لإعادة تسويق النظام.
ومع اتساع رقعة المواجهات على الأرض لم يصبح القرار فى يد فئة بعينها أو مجموعة واحدة وهو دائما مكسب وعيب فهو مكسب فى حالة إرادة الضغط من الخارج وعيب فى حالة التناحر الداخلي على مطالب مشتتة تقضي فى النهاية إلى الفشل الجماعي.
فى هذه الأثناء ضيعت الإدارة التركية بعد فوزها الكبير فى 2011 إمكانية إقامة منطقة عازلة يحظر فيها الطيران خصوصا بعد استخدام النظام البراميل المتفجرة وصولا إلى الأسلحة الكيماوية التى كان يجب على تركيا وقتها الضغط دوليا وإحراج الأمريكان حتى الوصول إلى قصف النظام وهو ما كان سيصنع قواعد جديده للعبة أمام الروس وغيرهم ومنع صفقات أمريكا المشبوهة دائما فى مثل هذه حالات ثم جعل هذه المنطقة العازلة أمرا واقعا.
كذا ضيعت تركيا فرصة التدخل عند وجود تحرك كردي بدعم أمريكي يسعى إلى استنساخ تجربة كردستان العراق فى الداخل السوري، تدخل كان يضمن لتركيا التواجد الفعلي فى الداخل السوري مما يضمن مناطق أخرى تعطي السيطرة عليها فرصة كبيرة للثوار لالتقاط الأنفاس، وتمنع التجمع الكردي الانفصالي المضر لكلا من تركيا وسوريا.
نعم خافت تركيا ومعها أمريكا والغرب من صعود لغة التيار الإسلامي، الخوف الذي جعلها تتراجع خطوات فى الدعم، ولكن تركيا كانت مخطئة هنا وربما سيطر عليها الهاجس الأمريكي مع ضغط المعارضة التركية فى الداخل عن النظر إلى أن هناك فصائل كبيرة كان يمكن التفاهم معها، وهي بالفعل منفتحة حول الأمر وهو الدولة وماهيتها، بل ولا تمانع من التعاون من أجل قيام دولة مستقلة قابلة للحياة بعد رحيل نظام بشار وليس بشار وحده كما يروج كثيرين ويضغطون فى هذا الاتجاه لأن النظام هو يد الأسد والأسد قائد للنظام.
مر الوقت حتى جاء تنظيم "داعش" الذي عليه علامات استفهام كثيرة ربما اتضخت لدى البعض من الظهور السريع والترك الدولي المتعمد لتمدده، وهو الذي كان يمكن بكل سهولة تحجيمه، ثم اتخاذه شماعة ووسيلة من بعد لضرب الثورة السورية ككل، فروسيا التي جاءت بزعم ضرب تنظيم الدولة لم تضرب سوى أقل من 20% من مواقع التنظيم وباقي الضربات الـ80% كانت موجهة للشعب السوري من أطفال ونساء وشيوخ مدنيين عزل وكذا لمن حارب تنظيم الدولة واستطاع أن يطرده مثل ما فعل جيش الإسلام بقيادة زهران علوش قبل أن يغتاله الروس فالغرض واضح وهو ضرب كل من يريدون الحرية وإسقاط هذا النظام "الاحتلالي" تحت مزاعم محاربة "داعش" وتساعده انسحابات "داعش" التكتيكية لصالح النظام كما حدث أمام قوات حماية الشعب الكردية فى تل أبيض التي تبعد حوالي 70 كيلو عن شرق كوباني بدعم من الطيران الأمريكي رغم أن التنظيم لم ينسحب بهذه السهولة فى عين العرب كوباني لكنه فعل فى تل أبيض التي تبعد نحو 85 كلم شمال مدينة الرقة مركز الدولة المسخ.
ويجب ان تعلم تركيا أن ترك مزيد من الوقت يمر سيعقبه تضخم لحزب العمال الكردستاني فى الداخل، الحزب الذي دعم فى الثمانينات منذ انطلاقه من النظام السوري ضد الأتراك لأن سوريا كانت تعد تركيا حتى وقت قريب دولة محتلة لجزء من أراضيها (ولاية هاتاي)، وحزب العمال لا شك أنه سيتحرك وفق هوى الداعمين والنظام السوري أحدهم مع الروس وهم يحتاجون تحركه بشده لشغل الداخل التركي وترهيبه إضافة إلى التطنيش الأمريكي.
والنظام الدولي غير مهتم إلا بمصالحة فقط فلا يمكن أن يصدق مجنون أن كل هذه الدماء وهذه الوحشية لم تكن تستوجب نصرة هذا الشعب قبل صعود تنظيم الدولة الصاعد لهدف بات واضحا جدا بعد تدخل الروس بالتنسيق مع أمريكا.
التنظيم الذي كان دوره دائما هو تحرير المحرر، وإضعاف تحركات المقاتلين والثوار ضد النظام ليتشتت فى البحث عن جواز قتال داعش قبل أن يمعن التنظيم فى هذا العهر تحت ستار الشريعة ثم الترقب الدائم لحراك التنظيم الذي لا يتحرك إلا وتحرك النظام معه، وأخيرا روسيا بعد أن كان النظام محاصرا على وشك السقوط قبل أن يصعد هذا التنظيم.
وفي الوقت الذي نسمع فيه عن محاولة خروج إنساني لأنصار "داعش" المحاصرين من قبل النظام إلى مناطق نفوذ التنظيم نرى ونسمع عن مضايا والزبداني وجرائم حصار حزب الله وإيران مع النظام وسوريا.
وفى هذا السياق لا يجب أن ننسى تصريح السيدة مادلين أولبرايت عام 2000 بعد صعود بشار الأسد إلى السلطة حيث أشادت بالانتقال السلس والهادئ والمنظم للسلطة في سوريا، وأعلنت في عقب لقائها مع بشار الأسد أنها لمست منه بوادر مشجعة إزاء السلام في المنطقة رغم أنه نظام عائلاتي قمعي ديكتاتوري ومخالف لكل شروط الدولة التى ينادي بها الغرب - زورا بيننا - لكنها المصلحة ثم المصلحة ثم المصلحة.
فكذلك يجب على تركيا أخلاقيا ومصلحيًا أن تساند الشعب السوري بالسلاح النوعي وأن تضغط فى هذا رغم الصعوبات الداخلية متمثلة فى الميزانية والمعارضة ونقل الصراع إلى الداخل الذي بالفعل انتقل عن طريق هجمات تنظيم الدولة وبي كي كي وحراك الدولة الكردية المنشودة على الحدود التركية السورية، وخارجيا متمثلًا فى الاقتصاد والحراك الحر وكذلك الاتفاق الدولي على نقطة لن يسمحوا لأحد بمجاوزتها والتى حددها لافروف وكيري بالإعلان عن دولة علمانية فقط هي التي يمكن أن يسمح بقيامها كما لو أنه مسموح أن تحدد دولة ما لشعب فى دولة أخرى نوعية الدولة التى يجب أن يقيموها ولكن هذا يتماشى مع تعريف السياسة الوحيد منذ عقود هو: امتلك القوة وافعل ما تريد حتى لو كانت جرائم.
وفى النهاية بقى أن نقول:
إن تركيا تعاملت مع الأزمة السورية إنسانيا بشكل جيد، فوفق دراسة مشتركة أعدها اتحاد جمعيات أصحاب الأعمال (TİSK) التركي ومركز أبحاث السياسات والهجرة في جامعة هاجيتيبه (HÜGO)، إن عدد اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا يقدر بحوالي 2,2 مليون شخصًا وبلغت تكلفة استضافة اللاجئين على الحكومة التركية 7,6 مليار دولار، كان 95 بالمئة منها مقدمًا من الحكومة التركية.
أما سياسيا، فكان التعامل ضعيفًا للغاية أو مرتبطًا بالسقف الأمريكي. لكن بقيت أمام الأتراك فرصة باستغلال التحرك الكردي وتنظيم الدولة لتتحرك وتفرض شيئا على الأرض ثم التنسيق مع الثوار والمجاهدين المستعدين لإنشاء دولة حقيقية ويمكن معهم بناء دولة قابلة للحياة وهم قادرون على دحر تنظيم الدولة وطرده، وقد فعلوا ولكن الدعم ينقصهم وبشدة بخلاف تنظيم الدولة، ومد القوات (المتحالفة مع الأتراك) بأسلحة نوعية تضمن التوازن عند الحاجة إلى التوازن وخلق منطقة تحت سيطرة الأتراك كأمر واقع مع المنطقة العازلة أو الأمنة؟
كذلك استغلال القضية الشيشانية فى الحراك الممكن مع أحمد زكاييف والمقاتلين الرافضين لنظام قاديروف المجرم المدعوم من موسكو، والرافضين كذلك لفكرة إمارة القوقاز التي اخترعها عمروف قبل اغتياله كورقة ضغط وحراك ممكن أمام الحراك الروسي بدرجة ما. وإفهام الغرب أن فشل الثورة سيعني مزيد من الثارات البائته بين السوريين وبين الدول التى تواطئت على كسر شوكة ثورتهم ودعم ذلك النظام المجرم من أجل مصالحهم وهو الواضح الذي لا لبس فيه.
واستغلال تدفق المهاجرين السوريين إلى تركيا الدولة الصديقة والشقيقة للشعب السوري بأن هذا يضر بأمنها القومي لتبرير تدخل عسكري مساند للثوار وليس الوقوف فقط على جعل تدفق السوريين إلى أوروبا ضامنا للضغط على الدول اللأوروبية التى تلقت الصدمة هذه بكثير من الذكاء بقيادة ألمانيا. وعلى تركيا أن تعلم أيضا أن نصر الثورة السورية بمساندة تركية سيضمن قوة كبيرة لتركيا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
إن مثل هذه الحروب رغم قسوتها لا تنتهى سريعا كما يظن الروس فمن حمل السلاح لن يتوقف أمام حجم الدمار الذي تحاول فيه روسيا إعادة تجربة الشيشان ثم تسليمها فى الأخير لقاديروف الذي يتباهى بحب بوتين الذي قتل من شعبه الآلاف واغتصب وعذب وباع أعضاءهم بعد موتهم بل ويصرح فى فخر بأن الشيشان جزء من روسيا رغم أن الشيشان دولة مستقلة يحتلها الروس وهو ما يود الروس فعله فى سوريا فلو فاز الروس هنا فـ "كش ملك" للجميع.
وأخيرا، على تركيا أن تتغافل قليلا عن مكالمات الناتو والأمريكان، وأن تتحرك بسرعة وإلا ستكون النتائج المقبلة كارثية وخسارة كبيرة على الأتراك قبل السوريين أنفسهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس