ترك برس
رجّح الباحث والأکاديمي الإيراني، حسن أحمديان، المتخصص بالشؤون الإستراتيجية، أن يشهد التعاون الإقليمي بين تركيا وإيران تزايدًا في المرحلة المقبلة، مبينًا أنه "لن يكون النظام السوري محورًا مهما بعد اليوم، فأنقرة تعلم أن النظام بات خارج عنق زجاجة حلولها الصفرية، كما تعلم واقع حصول اللاعب الدولي على القول المحوري في الأمر".
وأفاد الباحث الإيراني في مقاله له نشرته الجزيرة نت، تحت عنوان "إيران وتركيا.. انقلاب في الرؤى"، أن أنقرة لن تصرّ على ما كانت تصرّ عليه قبل قدوم الروس إلى سوريا، مشيرًا إلى أنه "رغم استمرار الرؤية التركية إزاء سوريا فإن الإستراتيجية التركية في الإقليم في طور التغير، وباتت أكثر واقعية في التعاطي مع الأبعاد الإقليمية والدولية للأزمة".
وأشار أحمديان في بداية مقاله إلى أن "الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى طهران تأتي في ظل توتر غير مسبوق في العلاقات الثنائية بين البلدين، فقد أدى التقارب التركي مع السعودية وإسرائيل - رغم افتقاره إلى الأهداف المشتركة التي تبحث عنها تركيا - إلى قلق طهران من انقلاب في ميزان القوى الإقليمي، كما أدى التعاون الإستراتيجي بين إيران وروسيا في الملف السوري إلى انحدار نصيب أنقرة الإستراتيجي من طموحاتها الإقليمية، وقد شكل الملف السوري وتطوراته الأخيرة محور الخلاف.. لكن ورغم التدهور المشهود، زار أوغلو طهران".
ولفت إلى أن "المضيف الإيراني أحس لأول مرة بنبرة تركية - سواء من أردوغان الذي عبر عن أمله في أن تأتي الزيارة بنتائج إيجابية تعم العالم الإسلامي، أو من أوغلو الذي عبر عن تقارب في الرؤى مع طهران - تُبدي رغبة أكبر في التعاون وطي صفحة الصدام الإقليمي، وهنا يأتي السؤال عن المستجد في العلاقة الثنائية والتطورات الإقليمية الدافعة لهذا التغيير، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن التوتر لم يعكر صفو العلاقات الإيرانية التركية بين ليلة وضحاها، فقد استغرق الأمر خمس سنوات من تقاطع السياسات الإقليمية والتنافس الإستراتيجي، وقد أدت الخيارات الإستراتيجية المضادة لمواجهة غير مباشرة بين الدولتين في سوريا".
وتابع حسن أحمديان مقاله قائلًا:
لم تتريّث تركيا المندفعة بقوة صعود المحور الإخواني في المنطقة في قطع علاقاتها بالنظام السوري وتقديم المساعدة للمعارضة وتسهيل ودعم تسليح المعارضة السورية، بينما رأت طهران أن ضرب قوتها الإقليمية يجري عبر ضرب حلفائها وعلى رأسهم سوريا ومن خلالها حزب الله والعراق.
هكذا افترقت المقاربتان، وبدأت سرديّتا الدولتين تتجابهان خطابيا ويترجم ذلك من خلال الأفعال بدعم هذا الطرف أو ذلك. فالسرديّة التركية ركزت على القول ببطش النظام وضرورة التخلص منه لبناء سوريا أكثر ديمقراطية ورخاء. الهدف الإستراتيجي لذلك كان إسقاط الأسد والإتيان بنظام أقرب لتركيا يشكل جزءا أساسيا من المحور الإخواني.
أما السرديّة الإيرانية فقد تبنّت القول ببروز مؤامرة ضد سوريا، وبالتالي ضرورة التصدي لهذه المؤامرة التي تصب في مصلحة إسرائيل، والهدف الإستراتيجي لذلك كان إيقاف الحركة الإقليمية المندفعة لإسقاط النظام السوري باعتباره مرحلة أولى ستتبعها التحركات ضد العراق وحزب الله.
بذلك دخلت الدولتان إطارا من التنافس الإستراتيجي محوره مستقبل سوريا ونظامها، ولكن رغم احتدام التنافس وبروزه للعلن، استمرت العلاقات الثنائية، والاقتصادية منها على وجه الدقة، دون مشاكل تُذكر، فلم تتراجع العلاقات التجارية إلا بشكل ضئيل في الأعوام الماضية، ولم يكن هذا التراجع الخفيف نتيجة قرار سياسي بل جاء نتيجة لاشتداد وطأة العقوبات الدولية، لكن المسار العام بقي كما هو.
وذلك يدفعنا للسؤال حول فحوى هذا التناقض.. فمن جهة تتواجه الخيارات الإستراتيجية للدولتين ومن جهة أخرى تستمر الدولتان بالعلاقات الثنائية وكأن شيئا لم يكن.
ويمكن إرجاع ذلك إلى الثابت الرئيسي في العلاقات التركية الإيرانية، وبرأيي يمكن تسمية هذا الثابت بـ"التمييز بين الثنائي والمتعدد الأطراف". بعبارة أخرى تفكك كل من طهران وأنقرة علاقتهما الثنائية من التطورات الإقليمية وما قد يحدث في إطار متعدد الأطراف سواء في الإقليم أو على المستوى الدولي.
ويمكن إيضاح الكثير في العلاقات الثنائية بناء على هذا الأصل، فخلافا للعلاقة الإيرانية السعودية مثلا، والتي يتعدى فيها الثنائي ليأخذ طابعا إقليميا أو يأخذ الإقليمي شكلا ثنائيا في بعض الأحيان، بقيت العلاقة الإيرانية التركية محكومة بعدم الربط بين المستويين، وذلك ليس تمييزا تحليليا لتأطير الواقع، بل هو واقع يمكن تحليله بطرق مختلفة.
ومن أهم هذه الطرق القول بأن الدولتين قررتا أن تبقيا الأزمات الإقليمية -والخلاف الواضح حولها- في حدود الأزمات ذاتها وعدم إدخالها في إطار العلاقات الثنائية، كما يمكن القول بأن الصدام الإقليمي -إن دعت الضرورة له- والتعاطي الثنائي يمثلان نموذجا للعلاقات التركية الإيرانية.
ورغم وجود نموذج كهذا، لا يمكن التقليل من أهمية القضايا الإقليمية التي أثقلت سياسيا العلاقات الثنائية، فالتطورات السياسية والإستراتيجية في الشرق الأوسط أضفت برودة غير مسبوقة على هذه العلاقات، وما بقاء العلاقات التجارية والاقتصادية إلا مؤشرا يدل على ترجيح الطرفين الاستمرار بها في سنوات صعبة اقتصاديا وأصعب سياسيا.
فإيران المحاصرة بالعقوبات الدولية وجدت في العلاقة الاقتصادية متنفسّا لها يقلل من وقع الضغوط، وتركيا ذات العقلية الاقتصادية وجدت في العقوبات ضد إيران منفذا لربح خيالي عبر أداء دور الوسيط بين الاقتصاد الإيراني والعالم.. حكمت الواقعية إذن العلاقة الاقتصادية، إلا أن الواقع الاقتصادي والسياسي تغير بشكل ملحوظ في الأشهر القليلة الماضية، كما تغير -إلى حد ما- موقعا إيران وتركيا اقتصاديا وسياسيا.
فإيران المحصورة تنفست الصعداء بعد توقيعها الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية عنها، وما عادت الحاجة للبوابة التركية ملحة كالسابق. أما سياسيا فقد رفع الخيار العسكري -إلى حين على الأقل- من على طاولة الرئيس الأميركي، وعلى المستوى الإقليمي أعاد التدخل الروسي التوازن للواقع العسكري في سوريا وباتت تركيا -بعد إسقاط المقاتلة الروسية- خارج إطار ما يُرسم هناك.
أضف إلى ذلك أن الدعم الروسي والأميركي لأكراد سوريا، يُعتبر بعيون أنقرة جزءا من مؤامرة تُحاك ضدها. أما إيران الخارجة من عقوبات منهكة، فتجد وضعها السياسي إقليميا ودوليا أفضل بكثير مما سبق، كما أن حلفاءها الإقليميين في العراق وسوريا أصبحوا في وضع أفضل بكثير عمّا كان عليه الحال سنة 2014 ومطلع 2015.
تُدرك تركيا هذا التغير، كما تُدرك طهران الهواجس المشتركة أمنيا وسياسيا بينها وبين تركيا. لذلك زار أوغلو طهران في وقت عصيب، ولذلك أيضا رحبت طهران بقدومه. أدى إدراك أنقرة للتغييرات الإقليمية وخاصة صعوبة وضعها في ظل التصعيد الروسي ضدها، إلى محاولتها الاقتراب من طهران أكثر من ذي قبل.
ورغم استمرار بل وازدياد حاجة تركيا الاقتصادية والسياسية لإيران، جاء رئيس الوزراء التركي ليبيع قربه من منافسي إيران العرب أو يقايض هذا القرب بالعلاقات الوطيدة بين طهران وموسكو، فقد تكهن الكثيرون بطلب أوغلو وساطة طهران في العلاقة المتردية بين تركيا وروسيا، وقد تكون من الأجندة التركية أيضا الوساطة بين السعودية وطهران، كما قيل إن تركيا تبحث عن الاطمئنان على حصتها من السوق الإيرانية بعد رفع العقوبات عنها.
هناك أهداف أخرى طرحت للزيارة، كتشجيع طهران على تطوير أنابيب تصدير الغاز من الأراضي التركية إلى أوروبا وتقليص الخطر المحدق بتركيا من أي عقوبات غازية روسية، أو العمل على إعادة تصدير السلع التركية من إيران إلى روسيا وغيرها من الأهداف. إلا أن الواقع يقول إن تركيا اليوم تبدوا أكثر تركيزا على الأبعاد الإستراتيجية للتطورات.
فأولا تغيرت الأولويات الغربية في الإقليم، والكلام عن خرائط الشرق الأوسط الجديدة في الغرف المغلقة لم يعد خافيا. وثانيا ترى تركيا ما آلت إليه الأمور في سوريا والمنطقة بشكل عام بعد اقترابها من الخيارات الإستراتيجية السعودية وترجيحها الاقتراب من الأخيرة على حساب رؤيتها التاريخية المتوازنة المعروفة باسم "تصفير المشاكل" في علاقاتها الإقليمية.
وثالثا تعلم أنقرة وطهران أن دول المنطقة لا تملك الكثير من النخب ولا الرأسمال الإستراتيجي للتصدي للتطور الدولي البادي في الشرق الأوسط بمفردها. ورابعا تشهد تركيا واقع تراجع دورها إزاء تدويل الأزمة السورية بشكل خاص وتستخلص منه -كما هو الحال بالنسبة لطهران- أن حصة القوى الإقليمية في مستقبل الإقليم تتقلص بشكل سريع وملحوظ أمام تغوّل دور اللاعب الدولي.
وخامسا تعلم تركيا أن اللاعب الصاعد في الإقليم هو إيران بعد التخلص من العقوبات والضغوط الغربية، بل وتقرأ بدقة كيف أن خيارات طهران الإقليمية باتت أقرب إلى خيارات اللاعب الدولي، وما جاء به هذا الواقع من مشاكل في تعاطي الرياض وأنقرة وحلفائهما مع المجتمع الدولي.
على خلفية هذه الحقائق زار أوغلو -ودون أن يتوقع قدومه أحد قبل أسبوعين من زيارته- طهران. الواقع يقول بوجود هواجس مشتركة بين الدولتين تتمثّل في أطروحات تقسيم أو "فدرلة" سوريا، مما يعني أن ثمة تهديدا مشتركا تحاول أنقرة البناء عليه.
ومع العلم بتقلص ما بجعبة أنقرة السورية بعد التدخل الروسي، تطرح تركيا المشتركات مع إيران في ظل الواقع الجديد، وفي نفس السياق يأتي التأكيد التركي على ضرورة البحث عن حلول إقليمية، التمسّك بوحدة التراب السورية، ضرب الإرهاب (مع استثناء جبهة النصرة في كلمة أوغلو) وغيرها من المشتركات.
تعلم تركيا أيضا أن التقارب مع السعودية أو إسرائيل لن يغير الكثير، فلا توجد دولة إقليمية تتفهم الهواجس التركية كما تفعل طهران، بدورها تدرك طهران حالة الضيق الإستراتيجي التركية، ومن الواضح أنها تبحث عن المشترك بينها مع أنقرة في ظل الوقوف السعودي أمام خياراتها الإقليمية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!