ترك برس
"لم يكن الجامع الأزهر في ذلك الزمان مجرد محضن علمي، أو جامعة تُخرج طلاب العلم، والمشتغلين بالعلوم الشرعية، منغلقين على أنفسهم بين جدرانه، متجاهلين صخب القاهرة وأجوائها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ..".
جاء ذلك في مقال للباحث المصري في التاريخ والتراث محمد شعبان أيوب تحت عنوان "الأزهر والأزاهرة في مصر العثمانية"، نشر على موقع "إضاءات"، أشار فيه إلى أن "العلماء (في الأزهر) شاركوا بدأب ونشاط في تلك الحياة، وحاولوا قدر الإمكان تغيير ما رأوه من انحلال وفساد من طبقة المماليك والعثمانيين على السواء، وحرصوا كل الحرص على سيادة قانون الشريعة بين الناس كافة".
واقتبس أيوب قولًا للرحالة التركي، أوليا جلبي، عند مشاهدته للجامع الأزهر في القرن السابع عشر الميلادي، وهو إنه "ليس في مصر جامع ما للأزهر من جماعة، فهو مزدحم بالناس ليل لنهار، فلا تجد فيه موضعًا للسجدة. يجتمع فيه اثنا عشر ألف طالب ليل نهار، وتطن أصواتهم كأصوات النحل، مما يُدهش الإنسان، وقد انهمكوا في مباحثات علمية".
وتابع الباحث مقاله بمثال من تاريخ الجبرتي الذي يقول: "اتفق أن الشيخ عبد الباقي ابن الشيخ عبد الوهاب العفيفي طلَّق على زوج بنت أخيه في غيابه على يد الشيخ حسن الجدّاوى المالكي على قاعدة مذهبه، وزوَّجها من آخر، وحضَر زوجُها من الفيوم، وذهب إلى ذلك الأمير [يوسف بك الكبير] وشكا له الشيخ عبد الباقي، فطلبه فوجده غائباً، فأرسل إليه أعوانًا أهانوه، وقبضوا عليه، ووضعوا الحديد في رقبته ورجليه، وأحضروه في صورة مُنكرة، وحبَسَه في حاصل أرباب الجرائم من الفلاحين.
فركب الشيخُ علي الصعيدي العدوى والشيخ الجداوى وجماعة كثيرة من المتعمِّمين وذهبوا إليه، وخاطبه الشيخ الصعيدي فقال له: هذا قولٌ في مذهب المالكية معمولٌ به فقال: من يقول: إن المرأة تُطلِّقُ زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تُنفقه وما تصرفه، ووكيله يُعطيها ما تطلبه، ثم يأتي مِن غيبتِه فيجدها مع غيره؟! فقالوا له: نحن أعلم بالأحكام الشرعية. فقال: لو رأيتُ الشيخَ الذي فسخ النكاح. فقال الشيخ الجداوى: أنا الذي فسخت النكاح على قاعدة مذهبي. فقامَ على أقدامه وصرخ وقال: والله أكسر رأسك. فصرخَ عليه الشيخ علي الصعيدي وسبَّه وقال له: لعنَك الله ولعنَ اليَسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومَن جعلك أميرًا. فتوسّط بينهم الحاضرون مِن الأمراء يُسكِّنُون حِدَّته وحدتهم، وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس، فأخذوه وخرجوا، وهم يسبُّونه وهو يسمعهم".
وأشار الباحث المصري في نهاية مقاله، إلى أن "هذه الحكاية تعني أن أحد الفقهاء والقضاة المالكية وهو الشيخ الجداوي حكم بجواز طلاق الزوجة من زوجها بسبب غيابه الطويل على رأي مشهور في المذهب المالكي، وقد جاء الزوج فذهب إلى أحد كبار رجال الحكم والسياسة في ذلك العصر، وهو الأمير يوسف الكبير أحد أمراء الأمير محمد أبو الذهب المشاهير، الذي جاء بعم الفتاة المطلقة وهو أحد شيوخ الأزهر فأهانه وسجنه، فلما علم أحد كبار مشايخ الأزهر من المالكية وهو الشيخ علي الصعيدي، ذهب إلى الأمير، وصنع معه ما رواه الجبرتي، في مثال من عشرات الأمثلة التي تُدلل على المكانة الكبرى التي كانت للأزهر والأزاهرة في ذلك الزمان، بخلاف الأباطيل والأكاذيب التي روّجها ولا يزال يروجها مدّعو الثقافة والتنوير في بلادنا".
تجدر الإشارة إلى أن جامع الأزهر بُني أول ما بُني في مستهل حكم الفاطميين في مصر في العقد السابع من القرن الرابع الهجري 362هـ، وأُريد منه أن يكون منبرًا وجامعة للنشر والدفاع عن الأفكار والعقائد الشيعية الإسماعيلية، ومركز العبادة الأكبر لأهل القاهرة المدينة الجديدة آنذاك، وكذلك ليكون منافسًا فكريًا لمدارس وجوامع بغداد في ظل الخلافة العباسية السنية، وظل الحال على ذلك التنافس المذهبي والعقدي بين السنة والشيعة حتى تمكن صلاح الدين الأيوبي من بسط السيطرة الأيوبية على مصر في عام 567هـ، وإعادة الدعوة للخلفاء العباسيين السنة على منابر القاهرة، وبهذا قضى على النفوذ الإسماعيلي.
وبدخول العثمانيين مصر في الربع الأول من القرن العاشر الهجري 923هـ، فقد أدى ذلك إلى تطور ملموس في مكانة الأزهر، فبمرور الوقت صار مركزًا لافتًا من مراكز التدين والعبادة والتعليم، ثم كان التطور الأبرز باستحداث منصب شيخ الأزهر في العام 1090هـ/1679هـ باعتلاء الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي المالكي، وبهذا انتقل الأزهر من كونه مجرد مدرسة وجامع من جوامع القاهرة إلى كونه رأس المؤسسة الدينية والتعليمية فيها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!