د. زبير خلف الله - خاص ترك برس
سؤال يدور في خلد كل إنسان ينتمي الى هذه الأرض أو ينتمي إلى غيرها، سؤال يطرحه العدو والصديق في الآن نفسه، لأن تركيا المعاصرة مثلت عامل قوة بالنسبة إلى أصحاب المشروع التحرري الحضاري الراغب في أن تلعب دورا رياديا في صناعة الولادة الحضارية الجديدة، وتقود العالم الإسلامي الذي ظل رهين الأجندات الاستعمارية والاستبدادية لعقود طويلة، ولكن في الآن نفسه مثلت تركيا حجرة عثرة أمام كل القوى الاستعمارية الطامعة في الهيمنة على العالم الإسلامي وإعادة تقسيمه من جديد وفق رؤية جيوسياسية تخدم مصالحهم وترسخ وجودهم في عمق هذه الأرض المتمردة على مدار التاريخ.
ماذا لو سقطت تركيا؟ سؤال يتفق فيه الصديق والعدو، ولكن إجابته تختلف عند كليهما باختلاف طبيعة الرؤية الفكرية والمرجعية الحضارية التي تنبع من مصادر مختلفة.
سؤال لو سألته الى العدو لأجاب بالقطع إن تركيا باتت الرقم الصعب الذي يزعجنا في المنطقة وفي العالم، وإن تركيا هذا المارد الإسلامي ينفض الآن غباره من جديد، ويستفيق من عملية تخدير قمنا بها له على مدار عقود طويلة. نعم سيقول العدو لا نريد لتركيا أن تعود إلى مسرح الأحداث من جديد، ولا نريد لها أن تتمدد في أي شبر من تراب هذه الأرض، تركيا تمردت علينا وعادت إلى محضنها الحضاري الأول ذي البعد الإسلامي، وتريد أن تقود العالم الإسلامي حضاريا في وجه الحضارة الغربية المتقدمة. سيتعجب هذا العدو ويقول كيف لأمة قمنا بتخديرها وسلخها من مقوماتها أن تعود من جديد لكي تنافسنا نحن صناع الحضارة ودعاة التقدم والتمدن؟!
في المقابل لو سألنا نفس السؤال إلى الصديق لأجاب حتما سقوط تركيا سيشكل زلزالا حضاريا وانتكاسة في مشروعنا الحضاري الذي انطلق منذ فترة ولا زال يقاوم في كل المنطقة العربية والإسلامية لكي يقف على قدميه. لو سقطت تركيا سيزداد نزيفنا الحضاري، وسيعود الغزاة من جديد ليثخنونا بالجراح، ويطلقوا كلابهم المسعورة من أذنابهم وأذيالهم الانسلاخيين. لو سقطت تركيا ستكون الولادة عسيرة من جديد، وسيكون حجم الدمار والخراب أكبر في ذواتنا وأرواحنا قبل الخراب في ديارنا. سيقول لك الصديق لوسقطت تركيا سيطول عمر يتمنا الحضاري إلى أمد بعيد، وسنظل أيتاما تلهب ظهورنا سياط الخونة من عبيد الاستبداد وضباع الاستعمار والاستخراب.
فعلا إنه السؤال المخيف المرعب لأن ما نلاحظه اليوم من مؤامرات كبيرة ضد تركيا تؤكد أن ضباع الغرب وذئاب الصهيونية تتربص بتركيا، وتشعر بانزعاج كبير من عودتها الى الساحة الإقليمية والدولية كلاعب قوي مؤثر في طبيعة التوازنات على كافة المجالات. تركيا اليوم وبشكل موضوعي لم تعد ذلك الكوريدور الذي يمر عليه الغزاة ليغتصبوا عفاف أوطاننا وطهر تربتنا النقية، لقد أصبحت تركيا جزيرة بالمفهوم الاستراتيجي مستقلة تلعب مع الكبار وتؤثر في طبيعة كل قرار.
ليست تركيا تلك الدولة المختزلة في زعيمها الثائر أردوغان إنها تركيا التي تختزن في موروثها الثقافي والحضاري مشروع أمة حكمت العالم لقرون طويلة ولم تكن تقدر أي دولة في العالم أن تتجرأ على حياضها أو تنتهك مقدساتها أو اعراض نسائها وصباياها. تركيا المعاصرة تنحت مستقبلها ومستقبل أمة تكالبت عليها الضباع الجائعة، ونهشت لحمها الذئاب الضارية من دعاة الفساد والاستبداد، أمة أراد دعاة الانسلاخية أن يسلخوها عن منظومتها القيمية والأخلاقية، ويدمروا كل ملامحها الحضارية، ويبدوا فيها كل الأبعاد الجمالية الكامنة فيها وفي ثقافتها وفي شعوبها ، وأرادوا تشويه ثقافتها التسامحية من خلال خلق صورة قبيحة وبشعة متمثلة في داعش وفكره الإقصائي والاجرامي.
لست أدافع عن تركيا لأني أعيش فيها أو لأني درست فيها وإنما أدافع عن مشروع فكرة ولدت في مفترق الطريق، ولدت في ظروف تاريخية كلها تحديات وصعوبات، واستطاعت أن تشق طريقها بكل نجاح لتبني لها صرحا حضاريا ومشروعا تحرريا وطنيا يجمع كل المواطنين الأتراك مهما كانت اختلافاتهم الدينية والفكرية والعرقية. أدافع عن تركيا لا لشخص زعيمها أردوغان ومهندس سياستها الخارجية البروفيسور داوود اوغلو ولكن أدافع عنها لأنه بلد يجمع بين الوفاء لأصالتها الحضارية والدينية والشرقية وبين انفتحاها على كل قيم المعاصرة والحداثة والتقدم.
ماذا لو سقطت تركيا سيظل سؤالا يتردد لدى الجميع إما خوفا من صديق على مستقبل هذه الأمة الإسلامية التي تريد أن تنبعث من سباتها ومن تخلفها وتصنع لنفسها حضارة ومجدا يرتوي من ينابيع أجداده ويحتضن كل أبنائه على اختلاف أعراقهم وأديانهم، وإما أن يكون سؤالا يتردد من عدو أملا وأمنية لأعداء تركيا الذين يتربصون بها، ويرون فيها المارد الذي استفاق من نومته الطويلة ليقاوم الغزاة في الداخل والخارج.
فهل أنتم أيضا مثلي راودكم مثل هذا السؤال؟ ماذا لو سقطت تركيا؟!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس