د. زبير خلف الله - خاص ترك برس
الجميع الآن يتحدث عن خطر الإرهاب على أمن الشعوب والدول، ويعتبرونه تهديدا للحضارة وللتقدم وأمن الشعوب. وكل وسائل الإعلام بمختلف تنوعاتها باتت تتحدث عن هذا الغول المسمى بالإرهاب، وتعرض عبر شاشاتها أبشع صور القتل والتعذيب مما جعل الصورة تتوغل في مخيلة كل إنسان، وتسكن تفاصيل دماغه بل قد يكون هناك من أثرت فيه هذه الصور فاندفع ليصنع صورة لنفسه على غرارها، وينخرط ضمن عمليات القتل البشع. لقد بات التركيز على ملف الإرهاب هو في نفسه تشجيع على الإرهاب دون قصد أو بقصد لأن العقل البشري إذا افتقد بوصلة قيمه وخارطته الأخلاقية قد تتحول هذه الصور إلى مرجعية له، ويميل إلى صناعة مايشابهها أو ما هو أبشع منها. فبدل أن يتحدث الجميع عن الإرهاب وخطره وعرض أبشع صوره وسرد حكايات لضحاياه كان حريًا بالنخبة وبالحكماء من السياسيين والمثقفين والمربين والإعلاميين أن يركزوا على الصورة المناقضة للإرهاب وطرحها بعمق في وسائل الإعلام وتقديم نماذج حية للحب والسلام والاعتدال والبحث عن حل حقيقي يعالج مأساة الانسان في فقدانه لمنظومته القيمية واختلال بوصلته الروحية التي استبدلت بمرجعية مناقضة لماهي عليه من خلال السيل الهائل من الحديث عن الإرهاب وصوره البشعة.
مفهوم الإرهاب وأشكاله:
لا أريد أن أتحدث مثل غيري من الكتاب والإعلاميين عن خطر الإرهاب، بل أريد أن أتناول المسألة بشكل معاكس تماما لأتحدث عن أهمية الاعتدال ودوره في بناء الشعوب والحضارات وتحقيق السلام والاستقرار. في رأيي أعتقد أن مسألة مصطلح الإرهاب وتشكلاته المختلفة ما زالت إلى حد الآن يتلبسها غموض كبير باعتبار أنها صارت وسيلة يستخدمها الجميع للنيل من الآخر، وأصبحنا أيضا أمام أنواع متعددة من الارهاب، فهناك إرهاب الدولة، وهناك إرهاب القبيلة، وهناك إرهاب العائلة، وهناك إرهاب المربي، وهناك إرهاب صاحب العمل... وإلى غير ذلك. لذلك فإن تناول مثل هذا الموضوع يجعلنا ننظر إليه في أبعاده المختلفة ونركز على السبب الذي أوجد مثل هذه الظاهرة الخطيرة.
الكل يتحدث عن الإرهاب، ولو رجعنا إلى أنفسنا وتعاملاتنا مع غيرنا لوجدنا أن هناك نوعا من أنواع الإرهاب قد تكون موجودة فينا ونحن لا ندري أو نغض الطرف عنها بل لا نريد أن نظهرها لغيرنا. ليس الإرهاب فقط هو قتل الناس أو تفجير في سوق شعبي أو قطع رؤوس أبرياء، إنه أيضا سرقة لأموال الشعوب ونهبها، واختراق للقانون والتعدي على حرمات الآخرين، وتزوير للحقائق، وتشويه سمعة من يختلف معك في الفكر وفي الرأي، ورفض لحرية الرأي والتعبير، واستخدام لكل شيء بشكل غير مشروع ومناف للقيم والأخلاق. إن الإرهاب بشكل مختصر هو نمط من التفكير والسلوك مناقض تماما للمنظومة القيمية والاخلاقية التي تنشر الخير والسلام والحب والتعايش مع الجميع.
ولو سألنا أنفسنا هل نحن فعلا ملتزمون بخارطة منظومتنا القيمية والأخلاقية لوجدنا أن أكثرنا يقوم بخرق لهذه المنظومة القيمية والأخلاقية. فلا تعتقد أن استنكارك لمظاهر القتل البشع دليل على أنك ملتزم بمنظومتك الأخلاقية والقيمية بل قد تكون أنت أيضا تمارس أبشع من ذلك، ولكن لا تشعر أو قد تتجاهل ما تقترفه من سلوكيات مدمرة للحرث وللنسل. فالدولة التي تقمع مواطنيها وتنكل بكل من يحمل فكرا حرا وتسجنه وتطرده هو أيضا إرهاب مدمر، وصاحب العمل الذي يستغل عماله ولا يعطيهم حقوقهم كاملة هو كذلك شكل من أشكال الإرهاب، والتاجر الذي يتهرب من دفع الضرائب للدولة على حساب الشعب والطبقة الفقيرة من أجل أن يربح أرباحا فاحشة هو أيضا يمارس إرهابا قاتلا للفقراء ومدمرا لاقتصاد الدولة، والإعلامي الذي ينشر أخبارا زائفة وينتهك شرف مهنته الاعلامية ويزيف الحقائق هو يمارس أيضا إرهابا أشد وأفتك مما نراه على شاشات التلفاز، والمواطن الذي يغش في عمله أو يعطي الرشوة إلى الموظف حتى يقوم له بالمعاملة هو أيضا إرهاب وإلى غير ذلك ....
إذا الإرهاب هو نمط من التفكير الخاطئ تنتج عنه سلوكيات خاطئة مخالفة للقيم وللأخلاق وللقانون ومضرة بالمجتمع وبالدول. لذلك نحتاج جميعا أن نعيد قراءتنا لمفهوم الإرهاب، ولا نحصره في زاوية واحدة لأن قتل أبرياء في تفجير يقع مرة أو مرتين في الشهر لا شك أنه مضر وفتاك ولكنه لن يكون أشد فتكا من ذلك الإرهاب الخفي الذي يمارسه الجميع يوميا وفي كل لحظة في كامل مظاهر الحياة ويروح ضحيته آلاف الناس الأبرياء من الفقراء والمستضعفين ومن دعاة الحرية والعدالة.
كيف يمكن الانتصار على الإرهاب؟
لن نستطيع أن ننتصر على الإرهاب الظاهر إلا إذا قضينا على الإرهاب الخفي الذي يسكن أعماقنا، ويمارسه الجميع يوميا بشكل طبيعي دون أن يجد أي حرج فيه ودون من ينكره، بل هناك من يتعلل لفعله ويعتبره ذكاء وفطنة وقدرة على الخروج من المآزق. لن ننتصر على الإرهاب بنوعيه الظاهر والخفي إلا إذا انتصرنا على أنفسنا، واستبدلنا قناعاتنا التدميرية بقناعات إبداعية بناءة، وأزلنا من عقولنا تلك الأعشاب الطفيلية التي تحجب عنا الحقيقة، وتجعل الصورة أكثر قتامة وسوداوية. لن نصنع عالما جميلا إلا إذا ركزنا على مفهوم الجمال في أنفسنا، وزرعنا الاعتدال والحب والتسامح والحوار، وتقبلنا الآخر مهما كانت أفكاره وآراؤه.
الإرهاب ليس فطرة في الإنسان بينما الاعتدال هو الفطرة التي جبل الله الناس عليها. وأي تراجع لسمة الاعتدال بما تحمله من مضامين الحب والتسامح والعدل والحوار ستتمدد على حسابه نزعة الإرهاب بما تحمله من مضامين الكره والحقد والغش وخداع الآخرين والسلوك اللاأخلاقي والمنافي للقيم وللقانون، وستتمدد هذه النزعة لتسيطر على مساحات الاعتدال المتراجعة، وتهيمن على عقل الإنسان وقلبه، ويصبح ذلك الإنسان خطرا وتهديدا حقيقيا يبشر بالموت والقتل، ويقترف أبشع الجرائم في حق الأبرياء والضعفاء ودعاة الحرية والحق.
إن الإرهاب شيء مكتسب نكتسبه حين نتنازل عن مرجعيتنا القيمية والدينية والأخلاقية فيتمكن هذا الفيروس من ذواتنا ونتحول إلى كائنات أو أشباح خالية من كل معنى ومن كل جمالية ومن كل القيم التي بشر بها نبي الإسلام صلى عليه وسلم الذي يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.." ، أو القيم التي وردت في القرآن الكريم ومنها قول الله تعالى في الآية 32 من سورة المائدة: "منْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ…".
لن ننتصر على الإرهاب في الواقع إلا إذا حسمنا معركتنا مع الإرهاب الكامن في داخلنا، وأقمنا مكانه قيم الحب والعدل والتسامح في ذواتنا، عندها فقط سينتهي الإرهاب من عالمنا ليحل محله الحب والخير والحوار والأمن. إن المسؤول عن الإرهاب في العالم اليوم هم أولئك الذين سمحوا لأنفسهم بأن تسيطر عليهم نزعات الإرهاب والحقد والكره والإقصاء وظلم الآخرين. فبدل أن نلعن ظلام الإرهاب علينا أن نوقد شمعة الحب والاعتدال في أنفسنا، عندها سيتحرر العالم من غول الإرهاب المزيف.
إن الإرهاب مرض يصيب العقل والقلب والروح وعلاجه هو أن يرتوي الإنسان من معين الحب، ويغتسل بماء التسامح، ويتدثر برداء التعايش، وأن يتنفس هواء الجمال، وأن يتغذى بفيتامين الأخلاق، وأن يسكن في محراب القيم حتى تزول كل مظاهر الإرهاب والقهر من على وجه البسيطة، ويتحول العالم إلى حديقة تتفتح زهورها بالحب والعدل والتسامح. علينا ان تنتخلص من قابلية الإرهاب ونستبدلها بقابلية الإعتدال. فهل نحن كذلك؟ أم إننا فعلا إرهابيون؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس