محمود علوش - خاص ترك برس
شهد نهاية شهر حزيران/ يونيو الماضي تطورين مهمين على صعيد السياسية الخارجية التركية، تمثل الأول بإعلان إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بعد ست سنوات من الخلافات التي أثّرت بشكل كبير على نفوذ الطرفين الإقليمي، والثاني اتصال الرئيس الروسي فلاديمر بوتين بنظيره التركي رجب طيب أردوغان واتفاقهما على إعادة العلاقات المتوترة بينهما منذ حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
من المفارقة أن التحوّل المفاجئ في سياسة تركيا الخارجية برز عقب خروج أحمد داود أوغلو، مهندس الخارجية التركية لسنوات طويلة وصاحب نظرية صفر مشاكل مع الجيران، من المشهد السياسي التركي. وقد بدا أن غياب الرجل سهّل من مهمة التوجه الجديد، رغم أنه لم يكن عائقًا في حقيقة الأمر أمام ولادة هذه الاستراتيجية بقدر التحديات الجمّة التي فرضت على الأتراك هذه الانعطافة التي ستظهر نتائجها في الأشهر المقبلة.
من غير الصواب تحميل داود أوغلو شخصيًا هذا الكم الهائل من المشاكل مع دول الجوار، وتجاهل المتغيّرات الكبيرة التي فرضها الربيع العربي على علاقات تركيا بدول مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. حتى أن العلاقات مع روسيا ما كانت لتنحدر إلى هذا المستوى المخيف لولا تأثّرها بالدرجة الأولى بالصراع السوري وما خلّفه من تعقيدات ليس فقط على هاتين الدولتين الكبيرتين، بل على العلاقات الإقليمية في المنطقة بأسرها. من هناك يمكن فهم الدوافع التي أملت على أردوغان انتهاج وضعية خارجية جديدة تُعيد دور بلاده الإقليمي إلى ما كان عليه في السابق.
على الرغم من أهمية المصالحة التركية الإسرائيلية وفوائدها الكبيرة على الجانبين، إلاّ أنها لم تشكل في حقيقة الأمر مفاجأة لمن كان ينتظرها، إذ أنها كانت متوقعة بعد الجهود المضنية التي استمرت لفترة طويلة وبرعاية أمريكية مباشرة من نائب الرئيس جو بايدن، على العكس تمامًا من جهود المصالحة التركية الروسية التي تجاوزت على ما يبدو أشواطاً كبيرة بمجرد أول اتصال هاتفي بين الزعيمين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، والتي فاقت سرعة الصاروخ التركي الذي أسقط الطائرة الروسية على الحدود مع سورية.
في المقارنة مع المعطيات قبيل أول اتصال بين الرئيسين منذ تشرين الثاني الماضي، لم تكن هناك أي مؤشرات توحي بأن جبل الجليد الضخم سيبدأ بالذوبان بمجرد برقية أسف من أردوغان تلاها اتصال هاتفي من بوتين، باستثناء التفاؤل التركي الذي ساد خلال الفترة الماضية، والذي لم يكن مفهومًا في ظل انعدام الحماسة حينها لدى الجانب الروسي لاستئناف العلاقات. كذلك، فإن حجم الخلاف الذي كاد يتطور إلى مواجهة مباشرة بين البلدين، وعدم وجود وساطة خارجية كتلك التي لعبتها واشنطن بين تل أبيب وأنقرة، تجعلان المرأ يتساءل عن العوامل الطارئة التي دفعت تركيا وروسيا إلى الشروع الفوري في إنهاء الخلاف.
كما أن دعوة الرئيس الروسي حكومته إلى بدء محادثات مع أنقرة بشأن استئناف العلاقات التجارية وإلغاء القيود التي فرضت على زيارة السائحين الروس إلى تركيا غير مفهومة، حيث أن الحظر الذي فرضه في السابق على سفر مواطنيه إلى هناك كان بدواع أمنية وتحت ذريعة أن السلطات التركية غير قادرة على حماية الروس على أراضيها، وقرار رفع الحظر جاء بعد ساعات فقط من الهجوم الصادم على مطار أتاتورك في اسطنبول، ما يعني في حسابات المنطق أن هذه القيود يجب أن تزداد بدلًا من أن ترفع.
وفي قراءة سريعة للتحول السريع في الموقف الروسي إزاء أنقرة من دون أي مقدمات، هناك عدّة عوامل يمكن الانطلاق منها لفهم بعض من الأسباب التي فرضت على الجانبين الروسي والتركي إنهاء الخلاف وفتح صفحة جديدة، وعلى رأس هذه العوامل الملف السوري، وزلزال الخروج المرتقب لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانشغال الأمريكي بالانتخابات الرئاسية، والذي سيترجم أكثر غياباً لواشنطن عن قضايا الشرق الأوسط مع كل يوم يقربنا من موعد الاستحقاق المنتظر، مع عدم تجاهل العوامل الاقتصادية بطبيعة الحال.
قبيل يوم واحد من المحادثة الهاتفية بين أردوغان وبوتين، استبعد السفير الروسي في دمشق ألكسندر كينشتشاك شن هجوم للنظام السوري على حلب والرقة في القريب العاجل، ما عكس حينها توجّهات روسية إلى إعطاء أولوية للمصالحة مع تركيا من خلال تهدئة الجبهة الشمالية كبادرة حسن نية تجاه أنقرة التي تتوجس منذ فترة من مسار الأحداث على حدودها الجنوبية.
العامل الأمريكي، لعب دورًا في تقريب وجهات النظر الروسية التركية حيال الملف السوري. فبالنسبة لروسيا، وصلت موسكو إلى قناعة متأخرة بعض الشيء بعدم جدوى التفاهمات الجانبية مع واشنطن في دفع مساعي الحل السياسي من دون مشاركة تركيا التي تمتلك مفاتيح الحل كما روسيا التي تمتلك قفل المفتاح. وأنقرة اقتنعت بدورها بشكل متأخر أيضًا بعدم جدوى التعويل على الحليف الأمريكي الذي خذلها في أكثر من مناسبة لا سيما في الملف الكردي، وأدركت أهمية النفوذ الروسي في إنجاز الحل المنشود.
الاستفتاء البريطاني الصادم زاد من غياب الدور الأوروبي في سوريا وجعل الأوروبيين منهمكين في حماية وحدتهم ومنع تفجر أزمة تهدد نهاية مشروع الوحدة الأوروبية. وقد تلقف الروس والأتراك انشغال الأوروبيين والأمريكيين في قضاياهم الداخلية كفرصة لأخذ زمام المبادرة في سورية بعيداً عن الغرب الذي بدا وكأنه ورّط الجميع في حرب الاستنزاف السورية وعقّد من مساعي الحل نظرًا لحساباته المتعارضة تمامًا مع الروس والأتراك.
قد يكون من المبكّر الحديث عن تفاهم قريب بين روسيا وتركيا في المسألة السورية في ضوء التناقض الكبير بين استراتيجيتهما في هذا البلد، لكنّ غياب الأمريكيين والأوروبيين سيدفع البلدين إلى البحث عن النقاط المشتركة، كالقبول ببقاء بشار الأسد في السلطة حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وهو ما وافق عليها أردوغان في السابق ويطالب به الروس، أو على الأقل التوصل إلى تفاهم بينهما يمنع حدوث صدام في الأجواء السورية كحادثة إسقاط الطائرة على غرار التفاهم الروسي الإسرائيلي الذي أثبت نجاحه كنموذج يمكن البناء عليه في التنسيق والتعاون في ملف حساس ومعقد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس