د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
شهدت بداية القرن العشرين محطات تاريخية مفصلية، كان من أبرزها الحرب الإيطالية العثمانية (1911-1912) التي استهدفت طرابلس الغرب (ليبيا) ومحاولة إخضاعها للسيطرة الاستعمارية الإيطالية. في هذا السياق، لعبت الأقطار العربية والإسلامية أدوارًا داعمة لصمود أهالي طرابلس الغرب ضد الغزو الإيطالي، ومن بين هؤلاء الداعمين أهالي قطر، الذين قدموا دعمًا ماديًا ومعنويًا للمقاومة في طرابلس الغرب. يستند هذا المقال إلى تحليل وثائق تاريخية تكشف أوجه التضامن القطري، كما يسعى إلى استجلاء دلالات هذا الدعم في سياق الأحداث السياسية الراهنة.
تظهر الوثائق التاريخية المُستقاة من الأرشيف العثمانيّ الدّور الذي لعبه حاكم قطر (1871-1913م) الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني وأهالي قطر في تقديم المُساعدة للمجاهدين اللّيبيين. ومن بين الوثائق المهمّة التي تشير إلى هذا الدّعم الرّسالة التي بعث بها لشيخ قاسم إلى السّلطان محمد رشاد الخامس في إسطنبول بتاريخ 20 مايو سنة 1912م، أي قبل وفاته بعام واحد، والتي عبر فيها عن استيائه الشّديد وتألّمه الكبير من بغي الإيطاليّين وظلمهم المسلط على أهالي طرابلس الغرب الأبرياء في عقر دارهم. وفي تعبير عن مدى تضامنه معهم قال: "ليت ذلك بالقرب لأقدم نفسي لأتقرب إلى ربي بهذا الجهاد، ولعدم إمكان ذلك فقد قدمت للمجاهدين من طريق مصر إلى رئيس اللجنة العليا عشرين ألف روبية، وأرفع أكف الضراعة إلى ربي أن يديم شوكة جلالتكم ويمد في سلطانكم".
وبتاريخ 26 مايو سنة 1912م، أرسلت الصّدارة العظمى (رئاسة الوزراء) رسالة مشفّرة إلى اللجنة المصرية العليا المكلّفة بإيصال المبلغ إلى طرابلس الغرب، ورد فيها: "ورد في الرسالة التلغرافية (...) الموقعة من قبل قاسم بن محمد الثاني في قطر والموجهة إلى العتبة العليا (السلطان) أنه أرسل مبلغ عشرين ألف روبية إلى نظارة الحربية المصرية لأجل المجاهدين، ونظرًا إلى أن المبلغ المذكور أُودع اللجنة المذكورة، فالمطلوب تقديم الشكر على الإعانة المقدمة من قبله وعلى مشاعر الحمية التي أبداها، وبيان محل صرف الإعانة".
وجاء رد اللجنة المصرية العليا بخصوص التّبرعات مفصلًا في رسالة تلغرافية مؤرخة بتاريخ 30 مايو سنة 1912م موجهة إلى الصدارة العظمى، تحتوي على توضيح لوجوه صرف المبلغ الذي تبرع به الشّيخ قاسم، مما يبرز حرص جميع الأطراف على متابعة الموضوع حتى النهاية؛ من قطر إلى البصرة إلى إسطنبول إلى مصر. وقد عبرت الحكومة العثمانية عن امتنانها للشيخ قاسم على ما بذله من مال، وطلبت من ولاية البصرة توجيه خطاب نيابة عن السلطان يُوجه إلى الشيخ قاسم لشكره وشكر أهالي قطر على هذه الوقفة مع إخوانهم الطرابلسيين. وتم إرسال هذه الرسالة التلغرافية بتاريخ 11 مارس سنة 1913م وجاء فيها: "نُبادر لبيان التشكّر والتقدير لهماتكم المصروفة في جمع الإعانات الحربية وعرضنا الكيفية للعتبة العلية".
تعكس هذه الرسالة التزام أهالي قطر وحاكمها الشّيخ قاسم بدعم المقاومة الطرابلسيّة، وتؤكد على البعد الديني الذي حكم مواقف القادة القطريّين في تلك الفترة. رغم أن الأوضاع في قطر في تلك الفترة كانت صعبة، حيث كان الأهالي يعتمدون على صيد اللؤلؤ وبعض التجارة مع بلاد فارس والبصرة والهند، ولم يتم اكتشاف النفط بعد، إلا أنّهم كانوا مستعدين للمساهمة في التخفيف من محنة أهالي طرابلس الغرب ومعاناتهم بما يقدرون عليه. وقد ظهر الحماس نفسه لدى كثير من أهالي بلاد الخليج والمشرق العربي وبلاد المغرب العربي، حيث تبرعت كل منطقة بما تيسر لها.
يعكس الدعم القطري لأهالي طرابلس الغرب خلال حربهم ضد إيطاليا عدة دلالات مهمة. أولها الانتماء الإسلامي والعربي المشترك، حيث لم يكن التضامن القطري مجرد دعم سياسي، بل جاء بدافع ديني وقومي، إذ اعتبر القطريون أن الدفاع عن طرابلس الغرب واجب إسلامي وعربي. كما يتضح من هذه الوقائع أن قطر لم تكن منعزلة عن محيطها العربي والإسلامي، بل لعبت دورًا مهمًا في دعم حركات التحرر الوطني. علاوة على ذلك، يبرز التأثير الاستراتيجي لدعم الشعوب في مواجهة الاستعمار، حيث ساهمت قطر - إلى جانب الشعوب الإسلامية الأخرى - في تمكين المقاومة الطرابلسية من الاستمرار في القتال، مما يعكس أهمية المساعدات الإقليمية في حروب التحرير.
إذا ما قورن موقف قطر من القضية الليبية في الماضي بمواقفها الحديثة، نجد أن هذا التوجه ما زال مستمرًا. فبعد سقوط نظام القذافي، لعبت قطر دورًا بارزًا في دعم الاستقرار الليبي عبر دعم المؤسسات الشرعية، ما يعكس استمرار موقفها المبدئي في دعم الشعب الليبي. وكما دعمت المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي، فهي اليوم تقدم دعمًا لشعوب أخرى تواجه أزمات مشابهة، مثل دعمها للقضية الفلسطينية ووقوفها إلى جانب الشعب السوري والشعوب الأخرى التي تسعى للحرية والاستقلال. بالنظر إلى مواقفها التاريخية والحديثة، يمكن القول إن قطر تعتمد نهجًا ثابتًا في الوقوف إلى جانب القضايا العادلة، سواء عبر الدبلوماسية أو الدعم المادي والمعنوي.
إن دعم قطر لأهالي طرابلس الغرب خلال حربهم ضد إيطاليا لم يكن مجرد موقف عابر، بل يعكس سياسة قائمة على التضامن مع القضايا العربية والإسلامية العادلة. وقد وثقت الرسائل والبرقيات القطرية مدى الالتزام الذي أبدته قطر تجاه المقاومة الطرابلسية. واليوم، ومع استمرار الأحداث في ليبيا والمنطقة العربية، يمكن استخلاص أن دور قطر في دعم الشعوب المظلومة لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لموقفها التاريخي، مما يعزز فهمنا لمواقفها الراهنة على الصعيدين العربي والدولي، وآخرها نجاحها في توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي المحتل بعد جهود مضنية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس