فهمي هويدي - صحيفة الشروق
من مفارقات الأقدار وسخرياتها، ومن عجائب السياسة العربية فى ذات الوقت، أن تختصر المسافات بين القاهرة وتل أبيب فى حين يظل التباعد قائما والتلاسن مستمرا بين القاهرة وأنقرة.
أحدث شاهد على ذلك أن الصحف القومية المصرية التزمت الصمت حين زار وزير الخارجية تل أبيب فى خطوة مفاجئة لم نشهد لها مثيلا منذ تسع سنوات.
وفى الوقت نفسه تعالت أصوات البعض منددة بالدعوة التركية لمد الجسور مع مصر ورافعة شعار «لا تصالح». وعند هؤلاء فإن التطبيع مع إسرائيل قفزا فوق بحور الدم العربى صار حلالا مباحا، أما التطبيع مع الأشقاء الذين اختلفنا معهم فى السياسات فقد اعتبره البعض مكروها وصنفه آخرون ضمن المحرمات.
تفسير ذلك الخلل يحتاج إلى تحليل نفس وسياسى يفهمنا لماذا صرنا نستأسد على الأشقاء ونستعلى عليهم فى حين نصبح حملانا وديعة مع الأعداء الذين يخفون أنيابهم ويتجاهلون تاريخهم معنا الغارق فى الدماء والمسكون بالإذلال والكراهية.
وإذ أرجو أن يتصدى لتلك المهمة من هو أهل لها يوما ما، وهو ما تمنيته فى قت سابق، فإن تلك العلاقة الملتبسة تمر هذه الأيام بظروف إيجابية تستحق أن نتفاعل معها بنفس الروح. أتحدث عن الرسائل التى تكرر توجيهها من جانب المسئولين الأتراك.
وهو ما عبرت عنه تصريحات رئيس الوزراء بن على يلدريم ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو.
حيث أبدى الرجلان رغبة الحكومة التركية الجديدة فى تحسين العلاقات مع مصر، وطى صفحة الخلافات والتلاسن معها.
هذا الكلام جاء صريحا فى سياق الحديث عن التحولات التى طرأت على السياسة الخارجية التركية، وفى ظلها تمت المصالحة مع إسرائيل وعاد تطبيع العلاقات مع روسيا إلى سابق عهده، قبل الأزمة التى تسببت فى قطيعة بين البلدين جراء إسقاط أنقرة لطائرة سوخوى الروسية التى انتهكت المجال الجوى التركى.
كنت قد أشرت إلى تحولات السياسة الخارجية فى مقالى «تقرير من تركيا» الذى نشر فى ١٤/٦ الماضى، وذكرت فيه أن محاور تلك السياسة محل مراجعة فى أنقرة، ظهرت آثارها فيما بعد. ولا يزال التحرك باتجاه التهدئة والمصالحة يمضى فى هدوء، سواء فيما يتعلق بالأكراد أو بالملف السورى. أما فيما خص مصر فإن الأمر مقصور على رسائل بعثت بها أنقرة عبر وسائل الإعلام لكن صداها لم يتبلور بعد فى القاهرة.
ومعلوماتى أن البلدين تبادلا فى وقت سابق زيارة مسؤليين امنين علي اعلي مستوي لدى كل منهما، إلا أن الزيارتين كانتا للاستكشاف ولم تسفرا عن أى تقدم ايجابى فى علاقات البلدين. لذلك لم استغرب ما قيل عن أن أوان المصالحة وتطبيع العلاقات بين البلدين لم يحن بعد.
وقد ورد ذلك المعنى فى عنوان ومحتوى مقالة للأكاديمى والمعلق السياسى التركى الدكتور سمير صالحة (نشرت يوم ١١/٧) وكان العنوان كالتالى: تركيا ومصر: مصالحة صعبة لم يحن وقتها. وقد لاحظت أن المقالة التى نشرتها صحيفة «العربى الجديد» اللندنية، أعاد نشرها موقع «ترك برس» وثيق الصلة بالسلطة فى أنقرة.
أثارت انتباهى فى مقالة الدكتور صالحة ثلاث ملاحظات. الأولى إشارته إلى أن وفدا تركيا سيزور القاهرة لبحث القضايا العالقة بين البلدين. وقد نسب هذه المعلومة إلى نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم شعبان دشلى. ولم يوضح ما إذا كان الوفد سيمثل الحزب أم أنه سيمثل الدولة.
الملاحظة الثانية أنه نقل عن المصادر الإعلامية الإسرائيلية قولها إن المصالحة التركية مع إسرائيل ستفتح باب المصالحة مع مصر، علما بأن إسرائيل قامت بتلك المهمة فى تحقيق المصالحة بين تركيا وروسيا. الملاحظة الثالثة تمثلت فى قوله إن مصالحة إسرائيلية تركية ومصالحة تركية مصرية سوف تشكل كتلة من أربع دول قوية بينها السعودية، يمكنها التعاون معا كحلف ضد إيران يحاول وقف تمدد نفوذها فى العالم العربى.
ما عاد سرا أن ملف الإخوان يمثل جوهر الأزمة بين القاهرة وأنقرة. وهو ما تجلى فى الانتقادات العلنية التى عبر عنها الرئيس أردوغان.
كما تجلى فى إيواء عناصر الجماعة الذين خرجوا من مصر وتوافرت لهم منصات إعلامية دأبت على انتقاد نظام ما بعد ٣٠ يونيو. وهو ما ردت عليه القاهرة بإجراءات عدة عبر عنها الهجوم الإعلامى وتمثلت فى إبعاد السفير التركى وإلغاء اتفاقية الخط الملاحى (الرورو) التى كانت تسمح بنقل الصادرات التركية إلى الموانى المصرية ومنها إلى دول الخليج.
كما تمثلت فى معارضة الحضور التركى فى بعض المحافل الدولية. والاصطفاف إلى جانب قبرص واليونان فى مواجهة تركيا. وصولا إلى الموقف المخاصم لأنقرة فى ملف مذابح الأرمن. وفى القضية الكردية (الدكتور صالحة تحدث عن تقارير استحباراتية تركية أشارت إلى زيارة وفد يمثل الأكراد للقاهرة لبحث التنسيق معها فى الساحتين التركية والسورية).
من خبرة المراجعات الاستراتيجية التى أجرتها تركيا أخيرا للتصالح مع الجيران، لن نستبعد مراجعة موقفها إزاء موضوع الإخوان. إذ إلى جانب تجفيف لهجة الخطاب الرسمى. فقد يسمح للإخوان بالتواجد دون ممارسة نشاطهم الإعلامى المضاد للنظام المصرى (وهو الحاصل فى إنجلترا مثلا). وإذا ما تم ذلك فإن الكرة تصبح فى مرمى القاهرة. وهو ما لا تسمح ظروف عدة بالتنبؤ بنتائجه، خصوصا أننا لا نعرف شيئا عن آلية صنع القرار فى مصر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس