مخلص برزق - خاص ترك برس
أريد للانقلاب أن يتم سريعًا، وسريعًا جدًا، وأن تستتبّ الأمور للانقلابيين بأسرع مما يتوقع الشعب التركي وذلك عند السحر الذي يسبق إجازتهم الأسبوعية يومي السبت والأحد.
كان مخططًا أن يستفيق الأتراك من نومهم يوم السبت 16 تموز/ يوليو على خبر مقتل رئيسهم المنتخب طيب رجب أردوغان أو اعتقاله وحبسه هو والآلاف من قيادات حزب العدالة والتنمية، ولأن الإنسان كان عجولًا فإن الانقلابيين وخوفاً من افتضاح خطتهم وفشلها بعد تسرب بعض خيوطها استعجلوا أمرهم وخطوا خطواتهم الآثمة مبكرًا مساء يوم الجمعة 15 تموز ليدخل العالم في صمت مطبق لساعات عديدة، ويقف على أصابع قدميه يرقب المشهد الدامي ومآلاته، مع استثناء إعلام السيسي وقنوات العربية وسكاي نيوز وما شاكلهم إذ دخلوا مبكرًا في وصلات ردح وتهريج.. شماتةً وابتهاجًا بسقوط "الديكتاتور" ونجاح "ثورة" الجيش!!
رغم أن الغموض كان سيد الموقف حينها إلا أن ذلك لم يكن ليحول دون ظهور مواقف متميزة نابعة من قناعات راسخة ومنطلقات سليمة ومعادن أصيلة لا تزعزعها الزلازل ولا تهزها العواصف تبني ردود أفعالها وهي على يقين تام أنها ستسأل عنها في يوم لا تخفى على الله منهم خافية...
يومٌ يقال فيه: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"...
يومٌ لا ينفع أي مجتهد اجتهاده سياسيًا كان أو إعلاميًا أو عالمًا أو خطيبًا أو أيًا كان، إن لم يكن قائمًا على خشية الله وحده لا سواه واتقاء غضبه وعقابه واستشعار "أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين".
الأخطر في ذلك الحدث المفصلي هو تلبس البعض برداء الحكمة والكياسة بالمطالبة بالتريث في اتخاذ المواقف إلى أن ينجلي الغبار و"ألا نكون ملكيين أكثر من الملك"!! والدعوة إلى عدم الانسياق وراء العواطف والمشاعر الفارغة حسب توصيفه والمطالبة بالتزام الصمت والحياد وضمان خط رجعة مع كافة الأطراف خاصة في حال نجاح الانقلاب واستقرار الأمور واتضاح الجهات الداعمة له والمرجح أنها كثيرة ولها ثقل إقليمي ودولي لا يستهان به!!
ذلك الصوت النشاز سمعناه من بعض المحسوبين على العقلاء و"الفضلاء" ممن تابعوا انقلاب ربيع العرب خريفًا وانتكاس الكثير من الثورات وحصار أهل الحق واستعلاء أهل الباطل وانحسار الأمل واستشراء اليأس والقنوط بين شباب الأمة وشيوخها ونخبها ومفكريها...
كان لافتًا للنظر بقاء دول وهيئات وجماعات على مقاعد المتفرجين المترقبين لساعات طويلة حتى بعد انتهاء الانقلاب وكأنها لم تصدق أنه قد فشل فعلًا وأنه رغم ضخامة المكر والكيد في الإعداد والتخطيط له واستناده لأجهزة عالمية متخصصة قد أحبط وتلاشى.
كل ذلك جعل البعض يقع في مطب التردد الآثم في عدم الانحياز من اللحظة الأولى مع الحق الأبلج المتمثل بالقيادة المنتخبة لصلاحها وكفاءتها وإخلاصها لشعبها وأمتها والتي يشهد لها تاريخها الناصع المليء بالإنجازات على كافة الصعد حتى غدا حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان رمزًا وطنيًا تركيًا للنهضة والتقدم والرقي.
كل من تلجلج في رفض تلك المحاولة الانقلابية منذ بدايتها، وتلعثم في إدانتها لحظة وقوعها، ولم يظهر غضبه اللامتناهي تجاهها حتى قبل علمه بفشلها، يكون قد تلبس بخصال المنافقين المذمومة المشؤومة وأبرزها ذلك التردد الذي وصف الله أصحابه بصورة متحركة دقيقة بقوله: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا".
إنه تردد الذين يقدمون الظن السيء على الظن الحسن كما جرى مع أجدادهم: "﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12].
إنهم في الحدث التركي ظنوا أن لن يعود أردوغان إلى إسطنبول، ولن يظهر على أعدائه ومخالفيه، كما ظنوا بشعبه ظن السوء وأنه سيخذله ويتركه لقمة سائغة للانقلابيين.
إنهم الموسومون بالترقب والتربص في كتاب الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وياله من إثم ويالها من خطيئة، أولئك الذين قال الله عنهم وعن أمثالهم: (ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٌ۬ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَـٰفِرِينَ نَصِيبٌ۬ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَڪُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِۗ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلاً).
إن مجرد البطء في اتخاذ القرار والموقف في مثل تلك اللحظات التاريخية يمكن أن يخرج صاحبه من صف الجماعة المؤمنة إلى عصبة النفاق البغيضة التي حذر الله منها بقوله: (وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ۬ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَىَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَہِيدً۬ا (٧٢) وَلَٮِٕنۡ أَصَـٰبَكُمۡ فَضۡلٌ۬ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُ مَوَدَّةٌ۬ يَـٰلَيۡتَنِى كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمً۬ا).
إنهم المستئذنون دائماً في اللحظات العصيبة، الخوالف دومًا عن الأحداث العصيبة، القاعدون المتثاقلون الباحثون عن المخارج من تلك الأزمات بأقل الخسائر، إنهم الذين (لو يجدون ملجأً أومغارات أو مدَّخلاً لولَّوا إليه وهم يجمحون)، إنهم الذين يتبجحون بالنقد اللاذع بعد أن كانوا كالأرانب الخانسة الجبانة تمامًا كوصف أجدادهم: (أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً).
تكرَّر الأمر مع البعض الذين قدَّر الله تعالى أن يشهدوا حصول المحاولة الانقلابية الآثمة في تركيا وهم فيها، فما كان منهم إلا أن أخرجوا مكنون أنفسهم متمنين أن لو لم يكونوا فيها، وأنهم كانوا خارجها في دولة من الدول التي أيَّدت الانقلاب أو كان لها ضلع في صناعته، أو حتى في دولهم التي جاؤوا منها رغم أنهم قد حرموا فيها من كل أسباب الحياة الكريمة بسبب جور الحكام وظلمهم، ودوا لو أنهم يتابعون أخبار ما يجري على الفضائيات وهم متكئين على أرائكهم آمنين من تبعات ما يجري كأولئك المنافقين الذين تمنَّوا أن يكونوا هائمين في الصحراء يتنقلون مع بدوها يكتفون بالسؤال عن أنباء ما يجري لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المحاصرة من الأحزاب... (يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم).
إنهم الذين لا يزنون مواقفهم ولا يبالون بحجم التثبيط الذي ينجم عن كلامهم لأنهم ببساطة أعدوا أجوبة واعتذارات وأيمانًا مغلظةً عن كل ما تفوهوا به (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس).
في الآية الأخيرة بلسم شافٍ كافٍ من خلال الإعراض عن أمثال أولئك وإهمالهم هم ومنهجهم وطريقتهم، والصدح بكلمة الحق بلا مواربة ولا خجل، تمامًا كما فعل علماء الأمة الإسلامية الذين اجتمعوا في جامع السلطان محمد الفاتح بإسطنبول يوم الجمعة 21 تموز بدعوة مشتركة من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهيئة علماء فلسطين في الخارج وتلبية العديد من هيئات وتجمعات العلماء من الأقطار الإسلامية، حيث أصدروا بيانهم الواضح الصريح بنقاطه العشرة حول محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا، والذي حوى تأصيلًا شرعيًا لا يحتمل التأويل أكد فيه العلماء على أنّ (الانقلاب على الشرعية وعلى اختيار الشعوب وحريتها وفرض الاستبداد عليها بقوّة السلاح أمرٌ محرّمٌ شرعًا، لأن الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة هو بغي وعدوان وفساد في الأرض وفتنة لا يعلم مدى آثارها الخطيرة إلا الله سبحانه وتعالى فالنصوص الشرعية المتضافرة من الكتاب والسنة قاطعةٌ على حرمة هذه الأعمال الإجرامية التي تمس أمن الفرد والجماعة والحكومة الشرعية).
وفي رد حاسم على المشككين والمرجفين دعا العلماء (أبناء الأمة الإسلامية على تنوع مكوناتهم إلى مساندة تركيا شعباً وقيادة في مواجهة الانقلاب وما يُدبر لها من مكرٍ وكيدٍ فذلك من أعظم واجبات الوقت الشرعية).
وبلا أي تردد أو تذبذب هاجم العلماء الذين وقفوا وراء ذلك الانقلاب الآثم وأعلنوا في بيانهم أنهم (ينددون بأيَّ تدخل من أيّ دولة أو جهة في الشأن الداخلي التركي أو غيره) وأكدوا على (أن أي جهد أو مال يبذل في سبيل الباطل والفتنة فسيكون مصيره الفشل والحسرة في الدنيا والآخرة بإذن الله، يقول تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ").
إنه بيان جلي واضح لعلماء آلوا على أنفسهم أن يدوروا مع الحق حيث دار، وصدق الرئيس التركي الطيب أردوغان حين قال في خطاب جماهيري له: (لا يمكن لمن ينحني مع الريح أو يميل معها أو يتشكل حسب الظروف والقوالب وليست له حدود للأخلاق والقيم والمبادئ... لا يمكن أن يكسب أو ينتصر أو يصل لغايته).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس