شون مكميكين - صحيفة أمريكان إنترست - ترك برس
التحقيقات التي تجرى على إثر عملية اغتيال السفير الروسي يمكن أن تساهم في تقارب كل من روسيا وتركيا، وذلك لتعزيز الجبهة ضد الولايات المتحدة التي طالبت بالقصاص من قتلة السفير، أندريه كارلوف.
إن عملية القتل الوحشية التي تعرض لها السفير الروسي في أنقرة تعد من أسوء الكوابيس الجيوسياسية لأي دولة، حيث أنها تشبه عملية الاغتيال التي جدت في سراييفو سنة 1914 لتشعل شرارة الحرب العالمية. لكنها لا تدخل ضمن الإرهاب السياسي، الذي ساهم في اختلال التوازن الأوروبي الهش إثر حرب البلقان في سنتي 1912 و1913.
ساهمت هذه العملية في احتقان شوارع مدينة أنقرة، التي شهدت إطلاق النار من مسدس القاتل التركي على الدبلوماسي الروسي، احتجاجات مناهضة لسياسات روسيا في سوريا. والجدير بالذكر أنه في نفس اليوم، كان وزير الخارجية التركي سيتجه نحو موسكو من أجل الوصول إلى تسوية بشأن الأوضاع في سوريا.
ويبدو أن هذه العملية ستؤثر على العلاقات الروسية التركية، التي عمل كلا الطرفين في الأشهر الأخيرة الماضية على تحسينها وتطوريها.
فقد شهدت العلاقات بين البلدين تأزما في الشتاء الماضي، على إثر إسقاط طيار تركي لطائرة روسية من طراز سوخوي سو-24 على مقربة من الحدود السورية في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2015. وعقب الانقلاب العسكري الفاشل الذي تعرضت له تركيا، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن الطيار المسئول عن تلك العملية تابع لحركة غولن، التي خططت للانقلاب، كما أنه قدم بعض التنازلات بغية التقرب من بوتين من خلال دعم سياسته في سوريا ولكن في الأشهر الأخيرة وبسبب الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها روسيا في حلب تراجع أردوغان عن موقفه).
رغم أن الأوضاع لا تنذر بالخير، إلا أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن العلاقات بين الدوليتين لن تتدهور، وأن التقارب بينهما سيستمر. بادئ ذي بدء، بادر الجانب التركي بتقديم التعزية وعبارات التعاطف والمواساة للطرف الروسي في غضون دقائق من حدوث الاغتيال. يمكن أن يبدو هذا أمرا غير مثير للاهتمام، ولكن في العديد من الحوادث المشابهة، لا يُقدم الرؤساء على تقديم خالص تعازيهم فورا. فمنذ سنة مضت، رفضت تركيا تقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية، وهو ما أدى إلى تأزم العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل كبير.
أما بالنسبة لروسيا، فبعد عملية اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في 28 حزيران/ يونيو 1914، رفضت معظم سفاراتها في أوروبا خفض أعلامها كمبادرة لإظهار تعاطفها. خاصة وأن مثل هذه اللفتات الرمزية لها تأثير دبلوماسي كبير على العلاقات بين الدول.
بالإضافة إلى ذلك ليست روسيا وتركيا هما الطرفين المعنيين بهذه العملية، فكل الدلائل الأولية تشير إلى أن حكومة أردوغان توجه أصابع الاتهام إلى المنظمة الارهابية التابعة لفتح الله غولن، المسئولة عن الانقلاب العسكري الفاشل الذي جد في تموز/ يوليو 2016.
وستسعى الحكومة الروسية بكل السبل المتاحة إلى إجراء تحقيقاتها الخاصة في عملية الاغتيال، لكن بالطبع ستتقيد بالشروط التي ستفرضها تركيا. ولكن رغم ذلك فإنه بسبب حالة الطوارئ (وهي أقرب إلى الحكم العرفي) التي أعلنها الرئيس التركي في الصيف الماضي، سيصعب على روسيا دحض الفكرة التي تقول بأن حركة فتح الله غولن هي التي تقف وراء عملية الاغتيال.
ومن هنا دخلت الولايات المتحدة في هذا المشهد الدبلوماسي، فالأمريكيون لا يصدقون بأن رجلا طاعنا في السن كفتح الله غولن يمكن أن يدبر لمثل هذا الانقلاب العسكري الضخم من منفاه في جبال بوكونو ببنسلفانيا، ناهيك عن قدرته على التدبير لمثل هذه الاغتيالات السياسية.
ولا تزال أنقرة تحت الحكم العرفي منذ حدوث الانقلاب، لذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تدرك أنه ليس أردوغان فقط هو الذي يؤمن بأن فتح الله غولن هو المسؤول عن كل ما يحصل، بل أيضا الملايين من الأتراك. وهو ما يثير عدة تساؤلات حول أسرار الحماية التي يحظى بها غولن من أصدقائه في واشنطن.
وإلى حد الوقت الراهن، رفضت الولايات المتحدة طلب تركيا بتسليم غولن حتى عقب قطع أردوغان للتيار الكهربائي على قاعدة إنجرليك الجوية في جنوب شرق تركيا، التي قامت في مرحلة لاحقة بتطويقها بقواتها.
فماذا سيحصل إذا طالبت روسيا أيضا بتسيلم غولن لمحاكمته بتهمة التدبير لاغتيال سفيرها لدى أنقرة، أندريه كارلوف؟.
يبدو هذا من الوهلة الأولى احتمالا مستبعدا، بيد أن الأخبار التي راجت بمجرد حدوث العملية تحدثت عن إمكانية تحسن العلاقات التركية الروسية وتكاتفهما معا لمطالبة الولايات المتحدة بتحقيق العدالة، وإجراء بحث دقيق في مقتل كارلوف. ومثل هذا التحول في الأوضاع يتماشى مع الاتجاهات التي تتوخاها الدبلوماسية الإقليمية الحديثة، على الرغم من أن هذه الدبلوماسية لم تلق نفس الصدى في حلب.
لنعرف مدى حجم وخطورة هذا التحول، يجب علينا أن نعود إلى آخر مرة تم فيها اغتيال سفير دولة عظمى من قبل الإرهابيين؛ وهو سفير الولايات المتحدة في ليبيا، كريس ستيفنز، الذي قُتل في 11 من أيلول/ سبتمبر 2012، حيث ساهم هذا الهجوم في إحداث ضجة في وسائل الإعلام والأوساط السياسية. والجدير بالذكر أن السفير ستيفنز كان يعمل في منطقة غير مؤمنة نسبيا.
كانت الولايات المتحدة تنسق فيما مضى مع مسئولين أتراك لدعم المعارضة في سوريا، ولكن وبعد مرور أربع سنوات تفطن الرئيس التركي إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بتسليحه لهذه الجماعات. وغداة ذلك، أبدى استعداده لمد يد التعاون لبوتين، على الرغم من دعمه لبشار الأسد الذي تعهد أردوغان بالإطاحة به.
السبب الذي جعل أردوغان يعيد النظر في سياسته التي يعتمدها في سوريا هو سبب بسيط جدا، حيث أنه بدأ يشعر بخيانة الولايات المتحدة له، خاصة مع دعمها المحتشم له إبان محاولة الانقلاب الفاشل، وتجاهلها لطلبه بتسليمه غولن. على خلاف روسيا التي أبدت استعدادها لدعم الحكومة التركية قبل وبعد الانقلاب، حتى أنهما تبادلا برقيات استخباراتية ساعدت أردوغان على النجاة من الهجوم الذي شنته عليه طائرة هليكوبتر في فندق "مارماريس".
وعلاوة على ذلك، تبدو تركيا منعزلة بعض الشيء بعد أن تم التخلي عنها من قبل حلف الناتو في مجابهة تنظيم الدولة في سوريا. كما أنها في أعقاب الانقلاب الذي كان من الممكن أن يتحول إلى حرب أهلية أصبحت تبحث أينما كان عن حلفاء لدعمها، ولم يجد أردوغان غير روسيا لتسانده.
كل هذه المؤشرات تثير العديد من الأسئلة حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خاصة بعد مشاركتها في الإطاحة بصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا. هذا الفراغ الذي خلقته الولايات المتحدة ساهم في تفشي ظاهرة الإرهاب، وقد ارتكبت نفس الخطأ في سوريا، بيد أنها لم تتمكن من الإطاحة بنظام الأسد.
لكن اعتماد الولايات المتحدة نفس هذا الأسلوب مع تركيا سيكون له عواقب وخيمة. إن تهجّم الولايات المتحدة الأمريكية على دولة مستقرة كتركيا، والتي تعد قرابة 80 مليون ساكن، وفي الوقت ذاته تفتح أبوابها للاجئين السوريين الذين ساهموا في تعميق المشاكل التي تواجهها تركيا، سيحدث كارثة عالمية في حال تأزمت الأمور أكثر.
لا يمكن أن نجزم في الوقت الراهن، بضلوع فتح الله غولن في التخطيط للانقلاب الفاشل، أو بإسقاط الطائرة الحربية الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، أو حتى بتدبيره لمقتل السفير الروسي هذا الأسبوع، طالما تواصل الولايات المتحدة حمايته. ومع ذلك فإن معاداة تركيا للولايات المتحدة الأمريكية ستتواصل، وهو ما سيسمح لبوتين بأن يكسب ولاء بقية الدول الأعضاء في الناتو.
في السياق نفسه، مهما كان المنطق الاستراتيجي الذي تعتمده الولايات المتحدة لتبرير علاقتها الوطيدة والغريبة مع الإمام المتحصن بجبال بوكونو، والذي عمدت إلى تمكينه من الوقت اللازم لطمس آثار الجرائم التي ارتكبها في الماضي، فإنه ينبغي على غولن الآن مواجهة العاصفة القادمة سواء من واشنطن، أو أنقرة، أو موسكو.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس