جلال سلمي - خاص ترك برس
يبدو أن من الصواب تقييم زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لعُمان والكويت، خلال الشهر المنصرم، ومن ثم زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لقطر خلال الشهر الجاري، على أنهما زيارتان تأتيان في إطار محاولات متبادلة من الطرفين ترمي إلى البحث عن مسارات للتصالح وتهدئة نيران التحدي المستعرة بينهما، لا سيما وأن هذه الزيارات جاءت بعد زيارة وزير الخارجية الكويتي لطهران في كانون الثاني/ يناير الفائت.
عند النظر إلى واقع العلاقات القائمة بين دول الإقليم أو العالم، نُلاحظ أن بعض الدول تجمعها علاقات دبلوماسية متينة يعززها التعاون الاقتصادي والأمني، وبعضها الآخر تجمعها علاقات متململة يشوبها التنافس السياسي وتهدئ احتدامها السياسي قطاعات التعاون الاقتصادي، والجزء الأخير دول تنافس بين بعضها في إطار تنافس جغرافي سياسي هوياتي ثقافي.
تقوم الدول المتنافسة باستنزاف قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وفي النهاية، حتمًا، يكون هناك الخاسر وهناك الرابح. ولكن عادةً ما تحاول بعض الدول تدارك السقوط في طيات الخسارة التامة عبر تهدئة موجة الصراع، والنظر في "الحلول الوسط" للمسائل العالقة بينها، وعلى الأرجح هذا ما تسعى إليه دول الخليج التي نشرت بعض شروطها للتصالح مع إيران بشكل جاد، وإيران التي وجدت نفسها، على ما يبدو، مضطرةً لتهدئة موجة الصراع، في ظل التصعيد الإعلامي الأمريكي ضدها.
وعن الموقف التركي من محاولات المصالحة، نُلاحظ أن الصحف التركية تدعم وبشدة هذا التصالح، من خلال التأكيد على أنه لا يسبب سوى الخسارة للمنطقة بشكل عام، ومن خلال الإشارة إلى أن هذا التنافس يدفع بدول الخليج لعقد صفقات الأسلحة الهائلة مع الولايات المتحدة وأوروبا، لتبدو وكأنها حليفة مع هذه الدول، ولكن هذا التسلح لا يعود عليها إلا في هدر مواردها، واستثمارها في قطاع التسلح الذي يحول دون تحقيقها للتنمية المستدامة التي تمثل الضامن الوحيد لاستمرار وجودها قوية في عهد انخفاض أسعار النفط، أو نفاده بشكل كامل. وأما عن الظهور كحليف للدول الغربية، فيقيّم الإعلام التركي الأمر على أنه خدعة لا تفيد دول الخليج إلا بالانغماس في "سباق التسلح" مع إيران دون جدوى حقيقية لردع تهديداتها التي لا يمكن لكل ذي عينين أن ينكرها، ولكن بدلاً من الرد على هذه التهديدات برفع كمية الأسلحة، تشير بعض الصحف التركية إلى أن التصالح سيوفر لدول الخليج فرصة أكبر لوأد التهديدات الإيرانية عبر الأساليب الناعمة، مثل الإعلام والدعاية السياسية غير المباشرة، التي عادة تكون أقل كلفةً وأكثر تأثيرًا في الوقت الحالي، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تطوير قطاعات التعليم والتطوير والبحث التي توفر جزءًا من الكفاءة الذاتية الواقية للخليج من التبعية الكاملة المكلفة.
وفيما يتعلق بالموقف السياسي التركي الرسمي، يُستخلص من التصريحات التركية الصادرة عن بعض المسؤولين رفيعي المستوى، بأن تركيا تشعر بالامتعاض الشديد جراء استمرار الصراع الإيراني الخليجي الذي يكتسي ببعض معالمه "النزاع المذهبي"، وفي توجيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقاده الدائم واللاذع نحو هذا الصراع خير دليل على الموقف السياسي التركي المنزعج من هذا الحرب.
ففي قمة منظمة التعاون الإسلامي التي عُقدت في إسطنبول، وفي المؤتمر التركي ـ العربي للتعليم العالي الذي عقد في إسطنبول في 28 أبريل/ نيسان 2016، انتقد أردوغان، حالة التشرذم والنزاعات المذهبية والعنصرية التي يشهدها العالم الإسلامي، داعيًا إلى وحدة الصف ونبذ الخلافات.
وفيما يفسر هذا التصريح الموقف التركي الداعم للتوافقات الإقليمية، يُعتقد أن العوامل أدناه هي التي تقف وراء الموقف المذكور:
1ـ تكامل إقليمي نسبي:
يعتبر التكامل الإقليمي أحد مكتسبات السياسة الاتحادية المسيطرة على تطورات الساحة الدولية منذ حقبة الحرب الباردة وحتى يومنا هذا. وتسعى الدول الإقليمية إلى تحقيق التكامل من أجل الحفاظ على "هوية مشتركة"، أو تحقيق "مصالح اقتصادية مشتركة"، أو صد "تهديد سياسي أمني مشترك". وعند النظر إلى الخطاب التركي، نلحظ أنه يرسم هوية المنطقة على أنها "هوية شرقية إسلامية"، ويؤكد على ضرورة التعاون والتكامل الاقتصادي النسبي الذي يمكن لدول المنطقة عبره توفير حاجياتها الاقتصادية بأسعار مناسبة نظرًا للقرب الجغرافي، وبفائدة متبادلة تساهم في رفع معدلات نموها وتنميتها، ويشدد الخطاب المعني على ضرورة "مواجهة المنظمات الإرهابية" ومقارعة "الضغوطات السياسية الخارجية"، لا الجنوح لبث الفتنة المذهبية أو العرقية، والتعاون مع المنظمات الإرهابية لصالح سلب تنازلات قسرية من دول الجوار، أو الانبطاح أمام الضغوط السياسية الخارجية والانصياع للدول الممارسة لها دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الإقليم ككل. وكمثال لهذا التكامل تعطي القيادة التركية في مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي "سيلاك"، واتحاد دول أمريكا الجنوبية، ورابط دول جنوب شرق أسيا "آسيان"، وغيرها من المنظمات الإقليمية التكاملية مثالاً ترى أنه يمكن تحقيقه في منطقة الشرق الأوسط لو اجتمعت الإرادة السياسية الحقيقية. وترمي القيادة التركية من خلال التحالف المذكور إلى تحقيق الأهداف التالية:
ـ تقاسم الأعباء في إنجاز التطور الاقتصادي الذي يوفر الاستقلالية السياسية والعسكرية لكافة الأطراف المشاركة في التكامل الذي يحمل قاعدة الربح المتبادل.
ـ جبهة سياسية متينة ضد التهديدات الخارجية المباشرة وغير المباشرة.
ـ شفافية تسهل تبادل الطموح السياسي والاقتصادي، فتأسيس المنصة الإقليمية المؤسسية يعني اجتماعات وتشاورات دولية لدول الإقليم فيما يتعلق بالمسائل المشتركة، وهذا ما يفتح المجال لظهور شفافية واضحة بين هذه الدول. شفافية تسهل على الساسة والبيروقراطيين تبادل الطموحات السياسية والاقتصادية والأمنية.
2ـ الظفر بفرصة التفرغ لتحقيق إنجازات دبلوماسية واقتصادية وأمنية:
تشغل النزاعات الجارية بين دول الإقليم حكومات تلك الدول، وتشتت طاقتها، حيث تصبح مضطرة لتشكيل طاولات أزمة ترصد جداول أعمال لا تختص بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الداخلية بشكل كامل، بل بشكل جزئي نتيجة انشغال طاولات الأزمة برصد خطط ترمي إلى صد تداعيات التنافس الناتج عن الصراع السياسي والعسكري.
في العموم، لا شك في أن سياسة التوافق الإقليمي لها نتائج إيجابية على الدول الإقليمية أكثر من سياسة التنافس الاستنزافي، وهو ما يدفع القيادة التركية لدعم محاولات التوافق الخليجي الإيراني، ولكن لا بد من الإشارة إلى الإرادة السياسية الحقيقية هي المفتاح الأساسي لتأسيس توافق إقليمي يحصنه تنسيق دبلوماسي وتعاون اقتصادي، ولتمتع الدول المتنافسة بالإرادة السياسية الحقيقية، لا بد من إقناعها أو اقتناعها بأن التنافس الاستنزافي لا يُحضر سوى الخسائر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس