مصطفى الستيتي – خاص ترك برس
منذ عشرينيات القرن الماضي كانت تركيا في قطيعة شبه كاملة مع العالم العربي، فقد قامت الجمهورية التركية العلمانيّة على أسس جديدة تتناقض تماما مع ما ورثته من الحكم العثماني الذي كان يجمع تحت مظلته شعوبا ومللا تركية وعربية وكرديّة وأرمنية وغيرها. واستمرت هذه القطيعة حتى ظهور حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية التّركية. لكن الانفتاح الفعلي على العالم العربي بشكل قوي كان مع تتالي المواقف التّركية الداعمة للقضية الفلسطينية، وخصوصا بعد مؤتمر دافوس عام 2009م، ولقي هذا استحسانا من الشّعوب العربية وكذلك من بعض الأنظمة الرسمية. وتطورت العلاقات التركية العربية بشكل لافت بعد الثّورات العربيّة، مع وصول حركات الإسلام السّياسي إلى الحكم في كل من تونس ومصر والمغرب الأقصى.
الوضع السّوري وانقلاب الموازين في المنطقة
إن تعامل النظام السّوري بوحشية مع المظاهرات التي خرجت في سنة 2011م للمطالبة بالكرامة والحرية لم يترك مجالاً للحكومة التّركية للبقاء بمنأى عن الشّؤون السّورية، فوقفت بشدة ضدّ هذا النّظام، ودعمت المعارضة على اعتبار أن النّظام السّوري سوف يكون مآله الانهيار بسرعة كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن. غير أنّ حسابات دوليّة وإقليمية نشطت بقوة، فأطالت من عمر النّظام وأُجبر الشّعب السوري على حمل السلاح للدفاع عن نفسه، ثم تدخّلت قوى إقليميّة بشكل سافر في الصّراع في سوريا لتتحوّل البلاد إلى مسرح لتصفية حسابات قديمة وجديدة.
انتصار الثورة السّورية كان يعني خلق واقع جديد في سوريا وفي المنطقة بأكملها، ولذلك تراجع الدّعم الغربي لهذه الثّورة، فقد أصبحت المواقف الغربية مترددة في دعمها للشّعوب العربية في نيل حريتها، وخصوصا بعد أن لاحظت أنّ أي انتخابات حرة ونزيهة يفوز بها الإسلاميون "أعداء الحرية والديمقراطية" في نظر الغرب. وهذا سوف يهدّد مصالح هذه الدول في المنطقة العربيّة، فكان أن فضّلت الجهات الغربية مصالحها على المبادئ وعلى حقوق هذه الشّعوب، ثم بدأت في التنسيق مع الأنظمة العربية القائمة المرعوبة من وصول موجة التّغيير إلى ساحاتها، وبدأت تتضح ملامح الثورة المضادّة. ونشطت آلاتها على الساحة المصريّة. وكانت مشاهد القتل والدّم والدمار التي استشرت في سوريا قد منحت الثورة المضادة في مصر الجرأة الكافية لكي ترتكب ما ارتكبته في مصر من قتل وتجريف للأبرياء في ساحات مصر المختلفة، فلقد تعود الناس على مشاهد الدّماء والقتل والدّموع، ولن يكون ما يرتكبه العسكر هناك إلا قطرة في بحر مما ارتكبه نظام الأسد في سوريا.
الانقلاب في مصر والارتداد عن الديمقراطية
مثّل الانقلاب على الرّئيس المنتخب محمد مرسي تحولا دراماتيكيا في العلاقات العربيّة التركية، فقد تحوّلت مصر من حليف استراتيجي إلى خصم لدود، وقطعت العلاقات بين البلدين، وبَعُدت الشقة بين الدولتين. وتحول الدّعم التركي للشعب السّوري إلى ذريعة اليوم لاتهام تركيا بدعم الإرهاب خاصة بعد أن ظهرت جماعات كثيرة متشددة وخصوصا "الدّولة الإسلامية" التي أقامت دولتها في أجزاء واسعة من العراق وسوريا وأصبحت تتمتع بمواصفات الدولة الكاملة؛ من شعب وأرض وموارد مالية متأتية من النّفط، بل إنها صكت لنفسها عملة خاصّة بها.
الانقلاب في مصر شجّع أنظمة عربية أخرى على اتخاذ مواقف باردة أو مناهضة لتركيا، على اعتبار أن تركيا تمثل الحليف الأكبر للحركات ذات الميول الإسلامية. بل إنّ بعض الأنظمة العربية وضعت جميع الأحزاب الإسلامية وأغلب الجمعيات الإسلامية في خانة المنظّمات الإرهابية، وأعلنت عليها الحرب بالجملة. ولقد نشطت ماكينة الأنظمة القديمة وأجمعت أمرها على الرّجوع إلى السّاحة متحالفة مع أعدائها وخصومها القدامى أحيانا، فتحالف النّظام اليمني السّابق مع الحوثيّين، بيد الحوثيين زحفوا على البلاد وقضموا أجزاء كبيرة منها وهم يوشكون على ابتلاع ما تبقى منها ليصبح اليمن ساحة خلفية لإيران ومطامحها المتزايدة في المنطقة.
وفي تونس تلاشت مخاوف رموز القديم، وأصبحوا لا يجدون غضاضة في الاعتزاز بانتمائهم لحزب الرئيس السّابق، ولم يبق منهم في السجن أحد، بل إن كثيرا ممن تركوا البلاد أثناء الثورة يحزمون حقائبهم للرجوع اليوم إلى البلاد. وبالرغم من أن الوضع أفضل من أيّ بلد عربي آخر مرت به عواصف التغيير عام 2011م بفضل الانتقال الديمقراطي السلس وتركيز سلطات منتخبة لا يجادل في نزاهتها أحد، إلاّ أنّ المخاوف ما تزال قائمة لأنّها ديمقراطية ما تزال وليدة وهشة.
بين حسابات الشّعوب وحسابات الأنظمة
العلاقات التركية العربيّة إذن مرت خلال السنوات الأربع الماضية بانتعاشة كبيرة، بل إن حجم التبادلات الاقتصادية بين الطرفين بلغت أرقاما قياسية لم تسجّل من قبل، كما نشطت العلاقات الثقافية وأصبح المواطن العربي يتابع الإنتاج الفني التركي بشراهة، وأصبحت مدينة اسطنبول ومدنا تركية أخرى الوجهة المفضلة لديه، غير أنّ الهزات العنيفة التي ضربت العلاقات التّركية المصرية في صيف عام 2013م وصلت ارتداداتها إلى جميع الدّول العربية تقريبا. ويمكن الجزم بأن علاقات الشعبين التركي والعربي لم تتأثر بحكم الهموم الواحدة والمشتركة والحرية والديمقراطية، وتركيا تمثّل بالنسبة إليهم نموذجًا في الحرية والنهضة، لكن العلاقات الرسمية العربية التركيّة لحق بها فتور كبير بسبب الحسابات السياسيّة وتوجس الأنظمة العربية من عدوى الديمقراطية التي أصابت تركيا وجعلت منها دولة قويّة ومهابة.
من المؤكد أنّ التاريخ لن يعود إلى الوراء، وما تشهده المنطقة العربيّة من مخاض هو شيء طبيعي بعد عقود من الاستبداد والفساد، فقد مرت أوروبا بالمراحل نفسها، واستغرق تركيز الديمقراطية فيها عقودا طويلة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. واليوم يكتشف الشّعبان العربي والتركي أنّ ما يجمعهما أكبر بكثير مما يفرقهما، وموجات الردة عن الحرية والديمقراطية التي تشهدها المنطقة العربية لن تفلح في ثني هذه الشعوب عن التعايش المشترك وفق قيم مشتركة جمعتهما لمئات السنين، وهي ما تزال حية، بل إنها تشهد انتعاشة لم تعرفها منذ أكثر من 80 عاما تقريبا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس