د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

في السّابع من حزيران/يونيو 1937، نشرت جريدة الدّفاع الفلسطينية خبرًا مؤثرًا عن وداع الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي في مدينة غزّة بعد سلسلة من الزّيارات المتكررة إليها. وقد نقلت الصّحيفة صورة حيّة لمشهد استثنائي؛ إذ اجتمع العلماء والوجهاء وطلاب المدارس والكشافة والأهالي في محطة القطار ليحيّوا الرّجل الذي خاطبهم بكلمات مؤثرة، قائلاً: "إنّني سأفارقكم بجسمي لا بروحي، فروحي معكم ولن أنس فلسطين ما دمت حيًّا، فإن أُقصيتُ عن تونس فإنّ كل شبر في بلاد العرب وطني، وسوف لن أقول لكم وداعًا بل إلى اللّقاء". تحوّل الوداع إلى ما يشبه المهرجان الوطنيّ. ولم يكن الأمر احتفالاً بضيف عابر، بل وداعًا لزعيم اعتبره الفلسطينيّون صوت تونس بينهم وصوتهم في تونس وسائر المشرق.

من النشأة إلى النّضال في تونس:

وُلد الشيخ عبد العزيز الثعالبي سنة 1876م في تونس العاصمة، في أسرة عُرفت بالعلم والالتزام الدّيني. تلقّى تعليمه في جامع الزّيتونة حيث تفتّحت مداركه على الفكر الإصلاحي. سرعان ما ظهر ميله إلى التّجديد والجرأة في القول، فأصدر سنة 1905م كتابه الشّهير "روح التحرّر في القرآن"، الذي اعتُبر بياناً إصلاحيّا يدعو إلى التّوفيق بين مقاصد الإسلام وروح الحرّية. وأسّس لاحقًا جريدة "سبيل الرّشاد" التي شكّلت منبراً للتعبئة الوطنية. ومع تصاعد السّياسة الاستعماريّة الفرنسيّة، انخرط في العمل الحزبي وأسهم سنة 1920م في تأسيس الحزب الدّستوري التّونسي الذي رفع شعار الاستقلال والدستور. هذه الأنشطة جعلته عرضة لملاحقة سلطات الحماية الفرنسيّة التي ضيّقت عليه الخناق، فاضطرّ إلى مغادرة تونس بحثًا عن فضاء أرحب للعمل الوطنيّ.

الهجرة إلى المشرق والبحث عن فضاء عربي:

بعد اضطراره إلى مغادرة تونس في مطلع عشرينيات القرن العشرين، اتّجه عبد العزيز الثعالبي إلى المشرق العربي حيث جاب عواصمه ومدنه الكبرى؛ من القاهرة ودمشق وبغداد، إلى الكويت والبحرين واليمن ودبي وغيرها. حمل معه مشروعه الإصلاحي وفكرته الوحدوية، فوجد في هذه الأقطار فضاءً أرحب لنشر أفكاره وبناء شبكة واسعة من الصلات مع قادة الفكر والسياسة. في القاهرة، استقبل بحفاوة بالغة، وأقيمت على شرفه لقاءات حضرها سياسيون ومفكرون وصحفيون وفاعلون في الساحة الثقافية، فيما تولّت صحيفة الشورى الصادرة هناك متابعة نشاطه ورصد تنقلاته. وفي العراق، برز حضوره الأكاديمي من خلال تدريسه سنوات عدة في كلية آل البيت، حيث ألقى محاضرات في فلسفة التاريخ الإسلامي. غير أنّ فلسطين مثّلت المحطة الأكثر خصوصية في هذه الجولة المشرقية؛ فقد رآها الثعالبي مرآةً تعكس معاناة الشعوب العربية كافة في مواجهة الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية. ومن هذا الوعي العميق بترابط النضال التونسي والفلسطيني، نال في مدن فلسطين استقبالاً استثنائياً وحفاوة لافتة جعلت حضوره يتجاوز حدود الضيف العابر ليغدو رمزاً للوحدة العربية المنشودة.

فلسطين زمن الثورة الكبرى:

حين وطئت أقدام عبد العزيز الثعالبي أرض فلسطين، كانت البلاد تعيش أوج أحداث الثورة الكبرى(1936-1939م)، وهي أطول وأوسع انتفاضة عرفتها فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، فواجهت القوات البريطانية وضعًا غير مسبوق من العصيان الشّعبي الشامل. في هذا السّياق المُلتهب، أدّت الصّحافة الوطنية الفلسطينيّة دورًا رئيسيّا في التعبئة والتحريض وحشد الرأي العام المحلي والعربي. فقد شكّلت صحف مثل " الجامعة العربية" و"الجامعة الإسلامية" منصّات للتعبير عن المطالب الوطنيّة، بينما جاءت صحيفة " الدّفاع" التي أسسها عام 1934م الصّحفيون إبراهيم الشنطي وسامي السروجي وخير الدين الزركلي لتحتلّ مكانة بارزة في الحياة السياسية والفكرية.

وسط هذه الأجواء المشتعلة، كان حضور شخصيّة مغاربية مرموقة مثل عبد العزيز الثّعالبي بمثابة إضافة معنوية كبيرة لقضية فلسطين. فالجماهير التي خرجت لاستقباله لم تر فيه مجرد زعيم تونسي في جولة مشرقيّة، بل رمزًا حيًّا على أن نضالهم يتجاوز حدود الانتداب البريطاني ويكتسب بعدًا قوميًّا أشمل. لقد جسّد وجوده في نظرهم برهانًا عمليًّا على أنّ قضية فلسطين هي قضية الأمة بأسرها، وأنّ صوت المغرب العربيّ يمكن أن يتردّد في شوارع القدس وغزة ويافا جنبًا إلى جنب مع أصوات المشرق. وهكذا التقت رمزية المرحلة الثورية مع رمزية حضور الثعالبي لتمنح الحدث بعدًا مضاعفًا من المعنى والدلالة.

زياراته المتكرّرة لغزة:

تميّزت علاقة الثعالبي بفلسطين بزيارات متعددة شملت القدس وحيفا وعكا والخليل ونابلس ويافا، لكن غزة احتلت مكانة خاصة في مساره. فقد زارها ثلاث مرات على الأقل خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وكان يلقى في كل مرة استقبالاً جماهيريّا واسعًا. النّوادي الأدبية والجمعيات الإسلامية كانت توجه له الدعوات لإلقاء المحاضرات، والمدارس الوطنيّة شاركت بطلابها ومعلّميها في استقباله، وفرق الكشافة اصطفّت لتحيّته، بينما خرجت أعداد كبيرة من الأهالي للاستماع إلى أحاديثه. هذه اللّقاءات لم تكن شكليّة، بل مثّلت مناسبات للتفاعل المباشر مع الجماهير، حيث كان الثعالبيّ يربط بين معركة تونس ضد الاستعمار الفرنسيّ ومعركة فلسطين ضد الانتداب البريطاني والصهيونيّة.

آخر زيارة له لغزة تُوّجت بمشهد الوداع الكبير في حزيران/يونيو 1937م. فقد وصفت جريدة "الدّفاع" كيف اجتمع الأهالي في محطة القطار ليستمعوا إلى خطبته التي شدّد فيها على التمسك بالدّين والعروبة والوحدة في مواجهة الاستعمار، مؤكداً أنّ لقاءه بالفلسطينيين لن ينقطع. بينما غصّت المحطة بالجموع حتّى تحوّل الوداع إلى مظاهرة وطنيّة.

وقد نقلت الصّحيفة كيف توافد العلماء والوُجهاء وفرق كشاّفة سعد بن أبي وقاص، وعمر الفاروق بموسيقاها، وكشّافة مدرسة الفلاح الوطنيّة، وجموع كبيرة من الأهالي. وحوالي السّاعة الثانية عشرة ظهرًا قدم الأستاذ بسيارة يرافقُه الحاج أمين الحسيني، وأحمد حلمي باشا، ودولة الطّباطبائي، فدوّى المكان بالتّصديق في مشهد يختصر البعد العاطفي والسّياسي لهذه اللحظة. وتكلم رئيس نادي غزة الرّياضي الأستاذ رشاد الشّوّا باسم الشّباب مودّعا، وقدّم لسيادته خريطة "الوطن العربيّ" باسم شباب النّادي، فكان لذلك وقع طيب في نفسه.

دلالات السّفارة الشّعبية:

تجربة الثّعالبي في فلسطين تكشف عن شكل مبكر من أشكال "الدبلوماسية الشّعبية". لم يكن الرجل يحمل صفة رسميّة، لكنّه مارس دور السّفير التّونسي في فلسطين بامتياز. كان يقدّم نفسه رسولاً لقضية بلاده، وفي الوقت نفسه يناصر قضية فلسطين ويجعلها جزءاً من خطابه في المشرق. من خلال جولاته وخطبه، جسّد مفهوم الوحدة العربيّة قبل أن تتأسس أطرها المؤسسية بسنوات. ولم يكن غريبًا أن يُودَّع في غزة وكأنه واحد من أبنائها، إذ رأت فيه الجماهير العربيّة هناك زعيماً صادقاً ينطق بلسانها ويدافع عن همومها.

من وداع 1937م إلى تضامن اليوم:

قراءة هذا الحدث بعد نحو تسعين عاماً تسمح بربط الماضي بالحاضر. فقد كان الثّعالبي يودَّع في غزة سنة 1937م وهو يؤكد أنّ اللقاء باقٍ ما دام حيّا، فيما تتجدد اللقاءات اليوم بطرق أخرى. تونس التي أرسلت أحد زعمائها يومًا إلى فلسطين لتأكيد التّضامن، تعود في أيامنا لتجسّد هذا الموقف عبر مبادرات عمليّة، من أبرزها انطلاق أسطول الصّمود من موانئها نحو غــزّة لكسر الحصار. وإذا كان وداع الثّعالبي قد تحوّل إلى مهرجان عاطفي في محطة القطار، فإنّ التّضامن التّونسي المعاصر مع غزة تحوّل إلى فعل سياسي وشعبي يسعى إلى فك الحصار المفروض عليها. في الحالتين، الرّسالة متطابقة: فلسطين ليست وحدها، ووحدة المصير بين تونس وغزة حقيقة لا يغيّرها الزّمن.

الخاتمة:

إن مشهد وداع عبد العزيز الثعالبي في غزة يوم 6 حزيران/يونيو 1937م، كما روته جريدة "الدّفاع" في عددها الصّادر في اليوم التالي، يمثل لحظة مفصلية في تاريخ العلاقات العربيّة–العربية قبل الاحتلال الصّهيوني. لقد كان الثّعالبي "سفير تونس في فلسطين" بفضل نضاله وكلماته وزياراته المتكرّرة، وجعل من غزة منطلقاً ووجهة لرسالته الوحدويّة. هذه الزّيارات لم تكن مجرد محطات شخصيّة في سيرة زعيم مغاربيّ، بل جسورًا ممتدة بين شعبين وقضيتين. واليوم، مع استمرار غزّة في صمودها وتجدّد مبادرات التّضامن من تونس، يبدو أن وعد الثّعالبي باللّقاء ما يزال قائماً، وأن صوت "السّفير" الذي ودّعته غزة قبل عقود يظلّ يتردّد في وجدانها حتّى اللّحظة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس