ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس
لقد كانت انتخابات الرابع والعشرين من يونيو/ حزيران الانتخابات الأصعب والأهم لتركيا بكل المقاييس والمعايير، فالأوضاع الداخلية والإقليمية والاصطفاف الغربي المدعوم ماليا من بعض الدول الإقليمية مع فصيل سياسي ومحاولة تنظيم صفوفه مع المعارضة ضد الرئيس أردوغان وحزبه صعبت كثيرا من مشهد هذه الانتخابات، لا سيما وأن هذه الانتخابات ستخلف جمهورية تركية جديدة لم يخطط لها الغرب ولا يريدها أصحاب الأهواء الموالون لسادتهم في الغرب.
ولقد سبقت هذه الانتخابات أحداث عظام مهدت المشهد للطرفين وأظهرت نوايا كل منهم، فمنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز/ يوليو انكشفت النوايا ونزلت الأمنيات للواقع في محاولات انقلاب متعدد منها ما كان خشننا في نزول ثلة من الخونة في الجيش الوطني، إلى محاولات انقلاب اقتصادية وتشويه الملف الحقوقي لتركيا لتكون ذريعة لتدخل غربي بحجة حماية حقوق الإنسان.
العراقيل التي وضعت أمام الرئيس أردوغان وحزبه كانت كثيرة، والتحديات أكبر والتأخر في مواجهتها كان سيكلف الرئيس وحزبه الكثير فالوقت ضده لأن المشكلات ستتفاقم والقدرة على مواجهتها في ظل الآليات القديمة لاتخاذ القرارات وتمريرها يعطي الفرصة للخصوم أن يصلوا لمبتغاهم، فكان طلب المعارضة الذي ألحوا فيه كموسى الذي تربى في حجر فرعون ليكون سببا لنهايته.
فاستجابة الرئيس لمطلب المعارضة للذهاب لانتخابات مبكرة كان توقيته مدروسا مستفيدا في ذلك بنتائج استطلاعات الرأي وتقديرات المواقف الحقيقية التي أعطته الضوء الأخضر مستندة على شعبية الرئيس والحزب المرتفعة في وقتها بعد عمليات غصن الزيتون وما حققته من انتصارات ذكرت الأتراك بأمجادهم، و ابعدت عنهم شبح الإرهاب المصطنع الهادف في الحقيقة لإرجاع تركيا لحظيرة التبعية الغربية.
ولم ييأس الغرب ولا أذنابه من حكام المنطقة وبدؤوا حربا جديدة ساحتها الانتخابات فافتعلوا الأزمات الاقتصادية والحقوقية وصوروا غصن الزيتون على أنها احتلال يقتل فيه المحتل التركي الأبرياء واتخذوا من استضافة تركيا لإخوانهم السوريين فتيلا لإشعال فتنة أهلية يمكن أن تتحول لجرائم تفضى إلى فوضى، إلا أن توفيق الله هدى الرئيس ومعاونيه إلى الطريق الصحيح لتفكيك المخططات ودحرها، ولقد كان لعدم اتفاق المعارضة على مرشح واحد للمعارضة يجتمعون عليه الأثر الكبير على هزيمة محور الشر الغربي وأعوانه نفسيا فلقد علم الغرب أن المعارضة لن تصمد أمام شعبية الرجل الذي يخدم شعبه ليل نهار ولا يهدأ ولا يكل ولا يمل من الالتصاق بشعبه ومصارحته ليقطع الطريق على الحاقدين والمدبرين بليل.
فكانت الخطة البديلة هي هزيمة أردوغان بالنقاط من خلال تفتيت أصوات المحافظين من خلال من تخيل لهم أنها الحصان الأسود (ميرال أكشنار) وصناعة خطاب محافظ يماثل خطاب حزب العدالة والتنمية مع محاولتها استقطاب أصوات النساء بدعوة التغيير وإظهار حكم الرجال لتركيا على انه سبب ما أصبحت عليه تركيا!!
ومن ثم يقضم حزب الشعب نصيبه ويقضم حزب الشعوب الديمقراطي نصيبه وتأخذ أكشنار من نصيب العدالة والتنمية والمترددين الذين لم يحددوا مرشحهم ومن ثم يذهبوا بالانتخابات إلى جولة الإعادة ليجتمعوا جميعا على من سيخوضها أمام الرئيس ومن ثم هزيمته.
لكن تقدير الموقف الأمريكي - الغربي خاب وبدأ يتكشف شيئا فشيئا وظهرت حقيقة الكيانات التي عولوا عليها وحقيقة شعبيتها، وهو ما جعل أمريكا تقر بفوز أردوغان قبل حتى أن تبدأ الانتخابات، وكان ذلك جليا في تخلي أمريكا عن حربها ضد أردوغان ورضوخها لطلبه بدخول قوات تركية لمنبج، وإخراج المليشيات الإرهابية الكردية (المرتبطة بتنظيم بي كي كي) منها، وهو ما عزز شعبية أردوغان بعد محاولات الأمريكان هز هذا الانتصار بافتعال تفجيرات في مناطق التي طهرها الجيش التركي في عملية غصن الزيتون، وزاد من تلك الشعبية تفاهمات أردوغان من الروس وتقاربه معهم مما نتج عنه تنازل روسيا عن مدينة تل رفعت لتدخل مع أخواتها في الشمال السوري ضمن المناطق الآمنة التي طالما دعا لها الرئيس لإنقاذ الشعب السوري المسلم من إجرام السفاح بشار الأسد، وهو ما ضاعف شعبية الرجل.
وعلى مستوى الشعارات كان أردوغان صادقا في تطبيق شعاره (تركيا أقوى) ولم ينتظر لما بعد الانتخابات ليحققه بل بدأه بصفقة زادت من قوة جيشه الذي يعد من أقوى عشرة جيوش في العالم وهو ما يعني مزيدا من قوة القرار السياسي لتركيا، فبعد مماطلة أمريكيا استطاع اردوغان إخضاع ترمب الذي فرض شروطا تعجيزية لتسليم الطائرة الأحدث والأقوى في العالم (F35) لتركيا في صفقة عززت كثيرا موقف الرجل في الانتخابات.
وعلى المستوى الاقتصادي استطاع الرئيس ومعاونوه أن يتفادوا الأزمات الاقتصادية المفتعلة سواء بمحاولة تسييس تقارير منظمات التصنيف الاقتصادي العالمية وإظهار تركيا على أنها تتراجع، أو بإطلاق الإشاعات بأن تركيا ستعاود الاستدانة من صندوق النقد الدولي لضرب الإنجاز الذي حققته حكومات العدالة والتنمية منذ توليها الحكم في تركيا، أو حتى من خلال المضاربة على الليرة التركية وسحب ودائع أمريكية وأوربية بالمليارات لكشف الاقتصاد التركي ومن ثم إحداث هزة في السوق تؤثر بشكل مباشر على المواطن فيعاقب الحكومة في الانتخابات.
ولقد كان لنغمة التغيير وبث روح التململ من سيطرة حزب واحد على الحكم منذ خمسة عشر سنة وتخويف الناس من صناعة الدكتاتور دور كبير بين المواطن التركي وفئة الشباب بصفة خاصة، ولقد كان لزيارات الرئيس المتكررة خلال الأسابيع الأخيرة لتجمعات شبابية وتناول طعام الإفطار معهم في رمضان في سكن جامعي بعد طلب أحد الطلاب منه ذلك أكبر الأثر على الناخب التركي، ولقد توافقت تلك الزيارات مع خطاب عاقل متزن يبشر بتركيا جديدة من خلال خطط ومشاريع على الأرض، كان آخرها تدشين مطار إسطنبول الثالث الذي سيوفر ما يقارب المائتين وخمسين ألف فرصة عمل للشباب، ولقد كان للوجوه الشابة حول الرئيس في جولاته أثر أخر في رسالة مفادها أن الغد لكم وتركيا أمانة للمؤتمن.
ولم يكن دعاء المظلومين والمستضعفين بغائب عن هذه الانتخابات فالخطاب العدائي لأحزاب المعارضة ضد السوريين واستعداء الشعب عليهم كان حافزا لهؤلاء لوصل الدعاء ليل نهار لمن استضافهم وأكرمهم ووضعهم موضع المهاجرين لدى الأتراك الأنصار، وتعدى الدعاء الحدود ليلاقي دعاء اللاجئين السوريين دعاء المستضعفين في ميانمار والصومال وفي وسط وغرب أفريقيا المنسية التي ينظر إليها الغرب على أنها غنيمة تنهب أو بقرة تحلب، وينظر إليها اردوغان على أنها خزان بشري وطاقات مهدرة يجب أن تستغل لتنفع البشرية.
وأخيرا، فإن الله لا يضيع من أحسن عملا، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين، حق لتركيا أن تفرح، كما أنه حق لنا أن نطمح ونأمل في أن تتكرر التجربة التركية في بلادنا مع دعاء مستمر أن يحفظ هذه التجربة وتكبر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس