سعيد الحاج - TRT العربية
إحدى السمات الرئيسة للنظام الرئاسي الذي بدأ سريانه في تركيا ما بعد الانتخابات الأخيرة هو المراسيم الرئاسية، إحدى الصلاحيات الممنوحة للرئيس في نطاق سلطاته التنفيذية. ولأن المرحلة انتقالية بامتياز من نظام برلماني إلى رئاسي، بما يعني تغيرات جذرية في بنية السلطة التنفيذية وتحديداً مؤسسة الرئاسة والهيئات التابعة لها، فإنه لم يكن مستغرباً ذلك العدد الكبير والمتسارع من المراسيم الرئاسية التي أصدرها اردوغان، بيد أن أكثرها جذباً للاهتمام ما تعلق منها بالمؤسسة العسكرية.
فقد شملت المراسيم الرئاسية التي صدرت خلال الأيام القليلة الماضية إلحاق رئاسة أركان الجيش التركي لوزارة الدفاع التابعة بطبيعة الحال لحكومة الرئيس المنتخب، وإعادة هيكلة “مجلس الشورى العسكري الأعلى” الهيئة المعنية بتحديد توجهات واستراتيجيات الجيش بإضافة نواب الرئيس ووزيرَيْ التعليم والخزينة والمالية لعضويته، إضافة لمرسوم ثالث لا يقل أهمية عنهما يتعلق بمنح صلاحية الترقيات والترفيعات للرتب المتقدمة في المؤسسة العسكرية للرئيس. وقد أضيف لهذين المرسومين قراران مهمان، الأول إسناد وزارة الدفاع لرئيس الأركان السابق خلوصي أكار، وتعيين قائد القوات البرية السابق الفريق أول يشار غولار رئيساً لأركان القوات المسلحة التركية خلفاً له.
تبني هذه المراسيم على خطوات سابقة قامت بها حكومات العدالة والتنمية على مدى السنوات السابقة لإعادة تنظيم العلاقة بين الحكومات المنتخبة والمؤسسة العسكرية، خصوصاً في عام 2013. فقد عدل البرلمان التركي المادة 35 من الدستور والمتعلقة بصلاحيات ومسؤوليات المؤسسة العسكرية، وحصرها بالدفاع عن البلاد وحدودها من الأخطار الخارجية بعد أن كانت تشمل الدفاع عن “مبادئ الجمهورية”، وهي المادة التي كانت تتخذ تقليدياً ذريعة للانقلابات العسكرية.
شملت الإصلاحات أيضاً إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي الذي كان الأداة الأبرز في يد المؤسسة العسكرية ضد الحكومات، أولاً فيما يتعلق ببنيته التي أصبحت ذات غالبية مدنية من خلال ضم نواب رئيس الوزراء وبعض الوزراء إليه، وثانياً فيما يتعلق بصفته وقراراته التي حولت من إلزامية إلى استشارية.
وإذا كان مجلس الأمن القومي بتعريفه مجلساً مشتركاً بين العسكريين والمدنيين، فإن مجلس الشورى العسكري الأعلى هيئة مرتبطة بشكل مباشر ببنية المؤسسة العسكرية واستراتيجيتها وحركة الترقيات والترفيعات فيها. وتحولها اليوم إلى غالبية مدنية بعد ضم وزيري التعليم والمالية إلى وزراء العدل والخارجية والداخلية والدفاع والرئيس ونائبه (نوابه مستقبلاً) إلى جانب الرتب العسكرية المتقدمة في الجيش، يعني الكثير على صعيد العلاقات المدنية – العسكرية في البلاد.
فالمؤسسة العسكرية التي طالما اعتبرت نفسها مؤسِّسة الجمهورية التركية وحامية أسسها والوصية عليها وعلى مبادئ أتاتورك ونهجه، بقيت فترة طويلة من عمر الجمهورية التركية فوق القانون والدستور والسياسة، وتدخلت كثيراً في الحياة السياسية إما بانقلابات مباشرة أو بضغوطات على الحكومة للاستقالة (كما حصل مع حكومة أربكان في 1997) أو تنفيذ قرارات معينة.
اليوم، وبهذه المراسيم التي تستكمل مراحل سابقة من الإصلاحات الديمقراطية، يعود الجيش إلى موقعه الطبيعي في أي بلد مستقر وديمقراطية حقيقية، كإحدى مؤسسات الدولة التابعة للقيادة المدنية المنتخبة من قبل الشعب، والمتناسقة مع التوجه العام للدولة والحكومة وليست مستقلة عنها، وهي العلاقة الصحيحة والسليمة لأي دولة ترجو استقراراً داخلياً ومكانة خارجية.
يرى الكثيرون أن هذه المراسيم قد أغلقت الباب نهائياً أمام أي انقلابات عسكرية في المستقبل، وهو رأي فيه الكثير من الوجاهة رغم أنه من الصعب الجزم به وبردة فعل المؤسسة العسكرية على قرارات ومراسيم وتحولات من هذا النوع. ذلك أن العقيدة التي سرت في المؤسسة على مدى 95 عاماً من الصعب الجزم بتبدلها نهائياً وبشكل سلس خلال 16 عاماً. ولذلك يبدو قرار توزير خلوصي أكار تحديداً ذكياً وفي مكانه، فوزير الدفاع الذي سيتبع له رئيس الأركان شخص عسكري بالأساس وهو نفسه قائده المباشر السابق، ما يخفف من حدة معنى “تبعية العسكري للمدني” في هذا السياق، وهي مرحلة انتقالية مهمة لضمان التحول التدريجي الهادئ الذي عود العدالة والتنمية عليه تركيا منذ 2002.
وبكل الأحوال، يمكن القول إن المراسيم الأخرة قد سطّرت علاقة صحيحة وسليمة ومطلوبة بين المؤسسة العسكرية ذات الخصوصية في التاريخ التركي الحديث وبين القيادة السياسية المنتخبة من الشعب، في ظل النظام الرئاسي الذي يعطي الرئيس سيطرة أكبر على مؤسسات الدولة المختلفة، وبطريقة لا تشمل أي إساءة أو إضرار بالمؤسسة، ما يساعد كثيراً على تخطي تركيا لهذه المرحلة الجديدة والحساسة بطريقة سلسة وسليمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس