د. سعيد الحاج - TRT العربية
تبذل تركيا جهودًا كبيرة لتجنيب إدلب عملية عسكرية كبيرة يهدد بها النظام منذ أسابيع ويحشد لها القوات مؤخرًا. فالمنطقة، الرابعة من مناطق خفض التصعيد وفق مسار أستانا، باتت الملف الأول في أجندة عواصم الإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار في سوريا، ومن المتوقع أن تكون أحد أهم ملفات القمة الثلاثية التي ستعقد في السابع من أيلول/سبتمبر المقبل في إيران.
تحظى المحافظة باهتمام تركي كبير لما تختص به من مميزات. فهي منطقة واسعة جغرافيًّا، ويقطنها حوالي أربعة ملايين إنسان وفق بعض التقديرات، غالبيتهم من النازحين إليها، وتتركز فيها فصائل عسكرية معارضة يقدر عددها بحوالي 100 ألف مقاتل، وهي المنطقة الوحيدة التي تسيطر عليها المعارضة المحسوبة عليها، إضافة لتواصلها الجغرافي و/أو قربها من مناطق النفوذ التركية في درع الفرات وغصن الزيتون، فضلًا طبعًا عن التواجد التركي الميداني في المحافظة عبر نقاط المراقبة الاثنتي عشرة.
بذريعة “تحرير” المنطقة من هيئة تحرير الشام، التمظهر الأخير للفصائل المحسوبة على “القاعدة” في سوريا، يهدد النظام بعملية واسعة وتدعمه روسيا في مساعيه. عملية كهذه ترفضها تركيا وتحاول قدر الإمكان تجنبها وتجنيبها، أولًا: لما ستسببه من كارثة إنسانية كبيرة بالنظر للكثافة السكانية المرتفعة، وثانيًا: بسبب موجات اللجوء والنزوح الكبيرة المتوقعة في حال حدوثها، والتي سيكون نصيب الأسد فيها لتركيا التي تستضيف حوالي ثلاثة ملايين منهم، ولا تريد عبئًا إضافيًّا. ولذلك فقد ركزت تصريحات أردوغان ووزير الخارجية تشاووش أوغلو على النتائج الكارثية للحملة المفترضة على إدلب وعلى مسار أستانا برمته.
هناك من يتوقع و/أو يريد جهدًا عسكريًّا تركيًّا مباشرًا لحماية المحافظة، على غرار عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، بيد أن أنقرة لا تريد ولا تستطيع ذلك لأربعة أسباب رئيسة على الأقل. فمن الناحية القانونية والسياسية لا تملك تركيا في إدلب نفس المسوغات التي قدمتها في العمليتين العسكريتين السابقتين خصوصًا وأنها منطقة غير حدودية معها. كما أنها لا تستطيع الوقوف أمام النظام في ظل سعيه لبسط سيطرته على “أراضيه” وهو المسعى المدعوم روسيًّا والمقبول دوليًّا في الفترة الأخيرة، فضلًا عن أن ذلك قد يضعها في سياق الدفاع عن “منظمة إرهابية” -هي هيئة تحرير الشام- ذريعة تدخل النظام وروسيا. وبالنظر لموازين القوى العسكرية فلا يمكن لتركيا أن تدخل في مواجهة عسكرية إذا ما كان طرفها الآخر روسيا، ويزيد من حساسية الموقف الحسابات السياسية مؤخرًا في ظل الأزمة مع واشنطن، وهو ما يبدو أن موسكو تستغله بشكل كبير للضغط على أنقرة في موضوع إدلب.
بناء على هذه المعطيات والحسابات الدقيقة، تبدو خيارات تركيا محدودة، أهمها وفي مقدمتها الجهد السياسي والدبلوماسي مع روسيا تحديدًا لتجنيب المنطقة مآلات التدخل العسكري. وتقوم المقاربة التركية على التوافق مع موسكو حول ضرورة خروج/إخراج “تحرير الشام” من المحافظة، لكن ليس بالضرورة من خلال المواجهة العسكرية. إذ تبذل أنقرة منذ فترة ليست بالقصيرة جهودًا غير مباشرة لـ”حل” الهيئة أو “تفكيكها”، بما قد يتضمن ترحيل المقاتلين الأجانب و”إذابة” عناصرها السورية أو معظمها في المحافظة وربما ضم بعض العناصر لـ”الجبهة الوطنية للتحرير” التي تشكلت حديثًا بتوحد عدد من الفصائل. ولاحقًا إدارة المنطقة مدنيًّا وأمنيًّا من خلال تلك الفصائل وبضمانات تركية أو ربما تركية ورسية وإيرانية وفق اتفاق سابق بينها، وهو سيناريو شبيه بما طبق في درعا مؤخرًا.
لكن وتيرة التصريحات الروسية تحديدًا بخصوص إدلب تشير إلى أن أنقرة قد لا تملك الوقت الكافي لبلورة هذا الحل وتطبيقه في ظل الضغوط الروسية عليها لإنهاء مشكلة الهيئة، ولعل حديث وزير الخارجية الروسي لافروف عن “محادثات روسية مع الولايات المتحدة بخصوص إدلب” تصب في معنى الضغط على أنقرة من جهة وفتح مصير إدلب على احتمالات إضافية من جهة أخرى.
في ظل هذه الحسابات، ولسحب الذريعة من يد روسيا والنظام، قد تضطر تركيا للقوة الخشنة، أي تدخلها أو تدخل الفصائل السورية المدعومة من طرفها ضد هيئة تحرير الشام. فقد كانت خطوة التوحد تحت اسم الجبهة الوطنية للتحرير موجهة بالأساس للنظام، لكنها أيضًا حملت معنى التمايز عن الهيئة وتهديدها ضمنيًّا بخطوات عملية ضدها في حال رفضت التعاون مع مسار الحل والتفكيك.
تدرك أنقرة بالتأكيد أن سيناريو المواجهة العسكرية مع الهيئة قد يخلط الأوراق في المحافظة ويفتح باب الفوضى فيها وأنه قد يكون له ارتداداته في داخل أراضيها إما انتقامًا و/أو تفاعلًا، ولذلك فقد كانت دومًا تتجنب هذا السيناريو ولن تذهب إليه -إن ذهبت- إلا مضطرة وبحسابات دقيقة مرة أخرى.
أما في حال شن النظام فعلًا عملية عسكرية في المحافظة، فمن المنطقي أن طبيعة الرد التركي ستعتمد على مستوى ووتيرة هذا التدخل، خصوصًا وأنها موجودة على الأرض من خلال نقاط المراقبة العسكرية. قد يكون الرد التركي عن طريق الجبهة الوطنية للتحرير تسهيلًا أو دعمًا، وقد تتدخل القوات التركية لحماية نقاط المراقبة وبعض المناطق المحاذية لها، لكن -مرة أخرى- ليس من المتوقع أن يكون هناك تدخل تركي مباشر وواسع في حال كانت روسيا جزءًا من العملية العسكرية أو داعمة لها من الجو.
بكل الأحوال، تأمل تركيا أن تكون الظروف المختلفة لإدلب، وخصوصًا عدد مقاتلي فصائل المعارضة وتسليحهم وتدريبهم وتوحدهم مؤخرًا وصعوبة لجوئهم لأي منطقة أخرى بعد إدلب ما قد يعني استماتتهم في القتال، تأمل في أن تكون تلك الظروف عاملًا رادعًا للنظام عن شن حملته العسكرية التي يتوعد بها أو على الأقل تأجيلها، بما يفسح لها المجال الزمني لإنجاح المسار الدبلوماسي مع روسيا وبدرجة أقل إيران. لكن تركيا تدرك بالتأكيد أن هذه الاختلافات في النهاية “كمية” وليست “نوعية”، وبالتالي فهي غير قادرة على ضمان مصير مختلف لإدلب عن حلب والغوطة الشرقية ودرعا بالضرورة.
ولذا، تعول تركيا كثيرًا على عامل الزمن وعلى القمة الثلاثية المقبلة في إيران، إن لم تبدأ العملية العسكرية قبلها، لاجتراح حل بديل عن التدخل العسكري، لتثبت الأيام لاحقًا هل يكون حلًّا مستدامًا أو مؤقتًا لتعود بعده تهديدات النظام وروسيا أو خططهما البديلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس