د. علي حسين باكير - القبس الألكتروني
في سبتمبر من عام ١٩٦١، قامت المؤسسة العسكرية التركية بإعدام عدنان مندريس، رئيس وزراء البلاد، وذلك بتهم تتعلق بخرقه المزعوم للدستور.
مندريس لم يكن رئيس وزراء عاديا، فقد اتّخذ خطوات جريئة وشعبية يعتقد انّها لعبت دوراً مهمّاً في استهدافه من قبل المؤسسة العسكرية كان من بينها إعادة اللغة العربية للآذان في تركيا وفتح الآلاف من المساجد في البلاد. المؤسسة العسكرية كانت تنصّب نفسها بأنها حامية للعلمانية في البلاد، وقد نظر الى نشاطاته هذه على أنّها محاولة لإعادة التديّن فيما اتهمه خصومه بانّ يلجأ الى استخدام الدين في السياسة.
بعد مرور حوالي ٥٧ عاماً ونيّف على إعدام مندريس، قام رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بافتتاح مسجد ومجمع «الفريق أول خلوصي أكار» في ولاية قيصري وسط تركيا، وذلك بحضور وزير الدفاع خلوصي أكار – الذي يحمل المجمّع اسمه-، وعدد آخر من الوزراء من بينهم وزراء العدل عبد الحميد غُل، والصناعة والتكنولوجيا مصطفى ورانك، والتجارة روهصار بكجان. أن يتم افتتاح مسجد باسم وزير الدفاع في فترة عمله، فهذا ليس بالأمر الهيّن في دولة مثل تركيا. على الأقل لم يكن من السهل فعل ذلك من قبل.
يمثّل هذا المشهد حجم التحوّل الذي شهدته تركيا في هذا المجال لاسيما في العقد ونصف الماضيين. بالرغم من عامل الزمن، فانّ النقاش حول الدين والسياسة لا يزال قائماً بطبيعة الحال. هناك من يقول انّ المؤسسة العسكرية تشهد تحوّلات ضخمة، وأنّ حجم التديّن داخلها يزداد. بالنسبة الى هؤلاء، فان مثل هذا الامر ليس ايجابياً على اعتبار انّ المؤسسة العسكرية يجب أن تكون حيادية في بلد يعتمد العلمانية أساساً له.
في مقابل هذا النقاش، هناك نقاش من نوع آخر يقول انّ العلمانية لا تعني العداء للدين، وأنّ ما كان قائماً من قبل هو استعداء للدين باسم العلمانية وهذا يتعارض مع حقوق الأفراد ويقيّد حرّيتهم أو حتى يمنعهم تماماً من ممارسة عبادتهم في بلد غالبيته الساحقة هم من المسلمين. من هذا المنطلق، فانّ كل ما تفعله السلطة هو ضمان الحرية في ممارسة العبادة، وليس من المفترض لهذا الامر أن يثير الحساسية فهو لا يتعارض مع العلمانية بأي شكل.
حماية العقيدة الأتاتوركيّة
للمؤسسة العسكرية التركية إرث كبير في حماية العقيدة الأتاتوركيّة العلمانية، وإستناداً الى ذلك الإرث فقد تشددت المؤسسة الى أبعد حدود في منع أي مظاهر دينية داخلها مهما بدت صغيرة او غير مهمة. لكن التعديلات التي شهدتها المؤسسة العسكرية خلال السنوات الأخيرة مهّدت لتحولات غير مسبوقة بدأت تخفف من القيود المفروضة شيئاً فشيئاً، وذلك بموازاة تقليم أظافرها والحد من تدخّلها في الشأن السياسي.
لم يحل ذلك دون قيام بعض العناصر داخل المؤسسة العسكرية بمحاولة انقلابية فاشلة ضد الحكومة التركية في ١٥ يوليو من عام ٢٠١٦. لكن بعد هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، تمّ استكمال التغييرات الجذرية التي خضعت لها المؤسسة وهدفت في نهاية المطاف الى إخضاعها بالكامل للمسؤول المدني وفصل عملها الاحترافي العسكري عن السياسي بشكل تام.
في هذا السياق، يدّعي معارضون بأنّ تغيير ثقافة المؤسسة العسكرية التركية وتحويل مهامها الأساسية وعلى رأسها حماية العلمانية في البلاد سيؤدي الى تقويض دورها الذي أنشئت من أجله. أثار هذا الادعاء نقاشاً حول مهام المؤسسة العسكرية وأهدافها الأساسية مراراً وتكراراً. تحسم التعديلات الأخيرة التي جرت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة دور المؤسسة العسكرية وعملها، فادعّاء وصاية المؤسسة على العلمانية او الدستور غير منسجم مع أصل الدور الذي تلعبه المؤسسات العسكرية والذي عادة ما يكون في إطار حماية حدود البلاد من المخاطر الخارجية والحفاظ عليها من أي تهديدات قد تشكل خطراً على وحدتها او مصيرها.
تحقيق التوازن بين الحفاظ على العلمانية والسماح بممارسة الشعائر الدينية قد لا يكون سهلاً أو ممكناً بطبيعة الحال لمن يؤمن بأنّ هدف العلمانية يجب أن يكون محاربة الدين. لكن في هذا السياق من البديهي ان يُطرح السؤال كيف لمؤسسة عسكرية بمثل هذا المبدأ أن تسود في مجتمع لا توافق غالبيته على هذا التعريف، فضلاً عن حقيقة انّه الخزّان البشري الذي تستمد منه المؤسسة العسكرية رجالها ومقاتليها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس