معاذ السراج - خاص ترك برس
لأسباب وعوامل جوهرية، يمكن التأكيد بأن من المبكر جدًا، ومن الأمور المبالغ بها، الحديث عن أن مستقبل سورية، يمكن أن ترسمه مجرد تفاهمات بين تركيا وروسيا، أو حتى بين تركيا وأمريكا، أو أية أطراف أخرى، وكعادة المصطلحات السياسية، فإنها تعطي من الانطباعات أكثر بكثير مما يسمح به الواقع، الشديد التعقيد، وما تفرضه الاستراتيجيات الدولية، التي يصعب التنبؤ بما يدور في دهاليزها، والتي لا تكترث بقليل أو كثير بما يُذاع ويُنشر على العلن، سواء كان اتفاقات أو معاهدات، أو شعارات عريضة تُطلق هنا أو هناك، ولا حتى بالكوارث الإنسانية التي تترتب على الصراعات والحروب التي تتسبب بها، كما يحدث في سورية اليوم.
صيغة التفاهمات ليست بجديدة، ألبرت حوراني، اعتبر أن اتفاقية "سايكس - بيكو" من هذا الباب، وكانت بين الحليفين فرنسا وإنكلترا، وهما تستعدان لخوض الحرب العالمية الأولى بوجه ألمانيا ودول المحور، وعينهما على تركة الدولة العثمانية المتهالكة آنذاك، والتي باتت هزيمتها بحكم المؤكدة. لكن وقائع تلك الفترة تنبئ بأن تعديلات كثيرة طرأت على تلك التفاهمات، وتداخلت فيها دول أخرى، ومرت بمراحل من الاتفاقات الرسمية وشبه الرسمية، قبل أن تستقر نهائيًا على صيغة معاهدة لوزان للسلام عام 1923، والشيء المؤكد في كل هذا، أن المحصلة والنتائج النهائية، قررتها المصالح الاستراتيجية للدول، في ضوء موازين القوى على الأرض، وأن ما تم رسمه على الورق، سبق أن قررته الجيوش الزاحفة.
ومن قبيل المفارقات الملفتة، أن سوريا التي يدور حولها الصراع اليوم، كانت هي نفسها موضوع التفاهمات بالأمس، مع فوارق لا تخفى، فالحديث اليوم يدور حول شريط حدودي ضيق شمال سورية، أما أحاديث الأمس فكانت تدور حول سورية مختلفة تماما عما هو معروف، "سورية الطبيعية" أو أقاليم بلاد الشام، على امتداد الجهات الأربع، بعواصمها الإقليمية الشهيرة: دمشق وبيروت والقدس وحلب، نواة الدولة العربية الكبرى، وثمرة نهضتها المفترضة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وليس سرًا أن مساحتها كانت تعادل أربعة أضعاف ما تمثله سورية اليوم، وموانئها الكبرى تزيد على العشرة على امتداد ما يقرب من 700 كم على الساحل الشرقي للمتوسط. سورية تلك كانت محور التفاهمات، ودارت عليها دائرتها.
مع تفاهمات سايكس بيكو انتهى كل شيء، وذهب أدراج الرياح، فوُئدت النهضة في مهدها، واغتيل الحلم الكبير، وتمت تجزئة البلاد والعباد، وزرعت بينهم الحدود والأسلاك الشائكة، والجمارك وجوازات السفر، واصطنعت منها دويلات عاجزة وفاشلة، وليس هذا وحسب، بل تم اقتطاع أجزاء هنا وهناك، وأُلحقت بكيانات أخرى، ويحسن أن نستعير هنا هذا التشبيه البليغ لِـ د. جيرمي سولت، وكأنه يصف ما حدث لسورية: "كانت كتلة كبيرة من الأرض تنبطح خاضعة عندما بدأت "وليمة" اللصوص... لقد مزقوها إربًا مثلما تُنزع مفاصل الدجاجة قبل الأكل، حتى ألمانيا نفسها لم تتكبد تقطيع الأوصال وانتزاع الأحشاء". "تفتيت الشرق الأوسط".
مهما قيل فنحن أمام حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن هذه البلاد وشعوبها من أكثر من تعرض لمكر وفساد السياسات الاستعمارية وسوء نتائجها على امتداد أكثر من قرن.
وإذا جاز التعبير فإن التردد الأوربي أو الغربي، (المصطنع)، تجاه الصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011، يمكن فهمه بوضوح في ضوء حقائق التاريخ الماثلة، ولا تختلف طبيعة الحجج والمبررات التي سيقت في معرض تبرير تقسيم سورية وتجزئتها قبل قرن، عن تلك التي تُساق اليوم، من توصيف طبيعة هذه البلاد وطبيعة أهلها، ووسمها بـ"الفوضى" و"العقلية الفوضوية" و"الفراغ"، وتعدد الأعراق والإثنيات، كما يرد عادة في الأدبيات الغربية، ولا عجب فقد وردت قبل أيام على لسان دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
فيليب حتّي الباحث في جامعة برينستون وصف سوريا الكبرى أو التاريخية بأنها: "أكبر دولة صغيرة على الخريطة. فهي مِجهرية في حجمها لكنّها كونيّة في نفوذها". فسوريا كانت مقرًّا للدولة الأموية. كما كانت مسرحًا للحروب الصليبية بين الإسلام والغرب. أي أنها القلب من منطقة الشرق الأوسط. ولا يصح والحالة هذه التقليل من شأن ما يحدث في سورية وما حولها، وإذا كان من المبكر الحديث عن تصور ما لمستقبل سورية أو الشرق الأوسط، إلا أن المؤكد أن المنطقة برمتها في طور من التحولات الكبرى يتشكل شيئًا فشيئًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس