معاذ السراج - رسالة بوست
في هذا الجزء من هذه الورقة، سنعرض للوقائع التي حدثت أثناء الغزو اليوناني لغربي الأناضول، وتوثيقها، وشهادات الشهود والتقارير الرسمية التي تحدثت عن تفاصيل ما حدث في تلك المأساة الدامية.
مصادر كثيرة كانت شاهدة على الأعمال الوحشية التي ارتكبها اليونانيون، أثناء اجتياحهم لغربي الأناضول في 16 أيار/ مايو 1919، وقد قدمت الحكومة العثمانية، وحكومة أنقرة لاحقا، قوائم مفصلة عن القرى المحروقة، وأعمال القتل والنهب والتعذيب والاغتصاب. وانضمت إلى هذه المصادر تقارير مفصلة على نحو متزايد، من مصادر غربية أخرى من بينها مراسلو الصحف.
الحكومة البريطانية التي كانت وراء الاحتلال اليوناني، واجهت صعوبات متزايدة في قمع السخط الذي نشأ من المجازر اليونانية. وتساءل عضو البرلمان أوبري هربرت عما إذا كان صحيحا مقتل 5 آلاف من أصل 7 آلاف تركي في يالوفا، فأجاب المتحدث باسم الحكومة (تشامبرلين)، إنه لا يملك إحصائيات مفصلة, لكنه اعترف بـ"تجاوزات خطيرة".
فسكاونت سان ديفيد، صرح في خطاب برلماني "أُخبرت أن عدد القرى التركية التي أحرقها اليونانيون نحو ثلاثمائة إلى أربعمائة"... أقرت الحكومة بأن قرى أحرقت لكنها لم تكن مستعدة لأن تقول كم كان عددها.
ومع الأدلة المتزايدة، ظلت الحكومة البريطانية رافضة تزويد مجلس العموم، حتى بتقرير لجنة التحقيق التي كلفها الحلفاء بتقصي ما حدث في سميرنا (إزمير).
- توثيق الأحداث:
ربما كان أهم توثيق لما حدث، تقرير لجنة تحقيق التحالف، التي أرسلها الحلفاء في تموز/ يوليو 1919، برئاسة فرنسي وإيطالي وإنكليزي، وممثل أمريكي، للتحقيق في الأعمال الوحشية في إزمير. وقد وافقت بريطانيا على اللجنة على مضض، خشية أن يكون رفضها للتحقيق أمرا مضرا بمصلحة الوطن.
رأى جستن مكارثي، أن التقرير كان وثيقة هامة، واتهاما مباشرا للغزو اليوناني، وللأفعال التي تلته، وبالاستنتاج، لدعم التحالف لليونانيين.
في حيثيات التقرير أن الحكومة التركية كانت تهيمن على الوضع في إزمير، وأن ذريعة الحاجة إلى احتلال يوناني لحماية اليونانيين المحليين كانت واهية تماما. وبحسب مكارثي، فقد اعتبر التقرير أن المجازر وأعمال النهب اليونانية حقيقة، وألقى باللوم على الجنود والمسؤولين اليونانيين، في المسؤولية عما حدث.
لكن نتائج التحقيق طُمست ولم تصل إلى الجمهور، ويبدو أن البريطانيين الذين كانوا يراهنون على نجاح الاحتلال اليوناني، وجدوا أن نشر التقرير سيضر بخططهم تجاه الأناضول بعد الحرب، وينعكس سلبا عليهم وعلى حلفائهم اليونانيين، كما صرح بذلك (فيبس)، أحد مسؤولي الخارجية البريطانية.
كثير مما ورد في التقرير يذكر بالأعمال الوحشية في حروب البلقان، وما فعله الروس في حرب 1877-1878، وأثناء اجتياحهم لشرقي الأناضول في صيف عام 1915 أثناء الحرب العالمية الأولى.
لكن الأعمال الوحشية في إزمير كانت مثيرة للاشمئزاز بشكل خاص، لأنها جرت في مدينة عظيمة كانت تنعم بالسلام التام. ولم تكن هناك مقاومة عثمانية، فالجنود العثمانيون استسلموا بشكل سلمي، بناء على أوامر حكومتهم في إسطنبول، بعد الاستسلام وتوقيع هدنة مودرس، والناس كان يهيمن عليهم الذهول، ومع هذا فقد واجه الجميع أعمالا شرسة، وكانت أعمال الاغتصاب والنهب والقتل والنهب قائمة على نحو كامل.
الأمر الذي ينبغي الاعتراف به، أن الوجود اليوناني في الأناضول كان بسبب دعم القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى فحسب، وخصوصا البريطانيين. وكان احتلال إزمير من إبداع لويد جورج.
وبسبب هذا التورط البريطاني، تتبع رجال الاستخبارات والدبلوماسيون البريطانيون المتمركزون في إزمير وإسطنبول الجيوش اليونانية المحتلة، وأرسلوا بتقاريرهم المفصلة إلى لندن. هذه الوثائق هي مصدر جيد لتفصيل تاريخي. لم تكن التقارير من دون تحيّز، لكنها عموما موثوقة من حيث الحقائق.
- وقائع وتفاصيل:
اتبع اليونانيون نمطا ثابتا تقريبا، في كل أعمالهم القتالية ضد السكان المسلمين، مثل نزع أسلحة الشرطة والجنود العثمانيين والمدنيين المسلمين، وتوزيع الأسلحة على اليونانيين المحليين، وسجن أو ترحيل موظفي الحكومة العثمانية ورجال الدين المسلمين، بعد ذلك تبدأ أعمال القتل والنهب والاغتصاب، وتدمير المنازل ومباني الحكومة، والمنشآت التي تحمل رمز الهوية الإسلامية، كالمساجد وأديرة الدراويش والمدارس الدينية ومقابر المسلمين.
كل المدن التي احتلها اليونانيون، تعرضت لأعمال مشابهة، بصرف النظر عن تلك التي أمكن توثيقها بالفعل، أو تعذر ذلك.
كثير من المذابح بحق المسلمين كانت من عمل (الشيتّا)، العصابات الإرهابية التي كانت متواجدة في الأماكن المستولى عليها، مع الجيش اليوناني، وهي المساوية والموازية للكوميتاجي البلغارية والصربية في حرب البلقان.
ونظرا إلى أن أكثر نهب السكان الأتراك حدث في القرى، حيث لم يكن هناك مراقبون أوربيون أو موظفون عثمانيون، ينقلون الأحداث إلى إسطنبول إلا في بعضها، فإن أكثر الأعمال الوحشية لا يمكن معرفتها إلا من خلال رد فعل الضحايا (الفرار عادة)، أو أدلة الدراسة الإحصائية للسكان، (أخليت مناطق كاملة من السكان الأتراك)، أو تقارير بعد وقوع الجريمة (المراقبون الأوربيون الذين شهدوا القرى المحروقة، والجثث الملقاة في شوارعها).
البروفيسور أرنولد توينبي، المؤرخ الشهير، جاء إلى الأناضول مراسلا ومحللا لصحيفة (المانشيستر غارديان)، كان يحمل لقب أستاذية (كورايس) في اللغة البيزنطية واليونانية الحديثة، والأدب والتاريخ في جامعة لندن، ولم يكن صديقا للأتراك في أثناء الحرب. توقع أن يرى أعمالا نبيلة من اليونانيين ورديئة من الأتراك. لكنه بعد أن اطلع على مجازر يالوفا وكيملك، وحقق بعد ذلك في التدمير المتواصل في إزمير استنتج، مثل لجنة تحقيق التحالف التي أشرنا إليها سابقا، أن الحكومة اليونانية هي التي خططت لمجازر الأتراك وطردهم.
أرنولد توينبي بعد زيارته غرب الأناضول من حزيران/ يونيو إلى آب/ أغسطس 1921، تحدث عن "حرب إبادة يونانية"، رجال الدولة الغربيون هم المسؤولون عنها في النهاية.
وكتب عن الدمار في المناطق المحتلة من قبل اليونانيين، ما بين 16 أيار، حتى العاشر من تموز ذاكرا أن سكان ست عشر قرية في ناحية أخيسار قد ذبحوا بالإضافة إلى سكان 25 إلى 30 قرية في ناحية سوغندير – مكان البصل - وسكان 14 قرية في منطقة أيدين. ثم عدّد قرى نهبت فقط، لكن من غير المؤكد ما إذا سلم سكانها من ذلك العذاب الذي أصاب الآخرين.
82 قرية بين أكهيسار ومانيسا، و60 قرية في نواحي (تاير – بايندير – أوديميس)، و15 في منطقة يالوفا... وهكذا.
في بعض تفاصيل الاجتياح التي ذكرها ستانفورد شو: "في شبه جزيرة إزمير، دمّرت تقريبا كليا بلدات (كارتال وشيلة وبنديك)، على يد العصابات اليونانية التي رافقها المدنيون اليونان والأرمن المحليون. لقد قُطّع الأطفال إربا، والفتيات التركيات خُطفن واغتصبن ثم قتلن، أما الرجال والصبية فقد قطعت رؤوسهم.
وإلى جنوب هذه القرى ذكر تقرير اللجنة المشتركة للحلفاء، والتي عينها المجلس الأعلى، صدر في تشرين أول/ أكتوبر 1919: "في جزء من قضاء يالوفا وغُملك، الذي احتله الجيش اليوناني كانت هناك خطة منظمة لتدمير القرى التركية، وإبادة سكانها المسلمين، ويطبق هذه الخطة عصابات من اليونان والأرمن، التي يبدو أنها تتحرك وفق تعليمات يونانية، وأحيانا بمساعدة فرق من الجيش النظامي... وبدل أن يقوموا بحملة تمدين أخذ الاجتياح اليوناني رأسا طابع الغزو والصليبية".
كان يوضع صليب أبيض على منازل اليونانيين في المناطق التي تجري مهاجمتها لتمييزها.
لا بد أن نذكر هنا، ودائما، بأن اليونانيين والأرمن، إلى جانب كثيرين من أجناس ومذاهب أخرى، كانوا إلى هذا الوقت يعيشون جنبا إلى جنب في مدن وقرى متجاورة ومتداخلة، وعلى مدى قرون منذ فتح القسطنطينية، لكن التدخلات الأوربية أفسدت كل شيء.
مدينة (منمن)، وصل إليها ضباط المراقبة البريطانيون على نحو غير معلن مع بدء أعمال القتل مباشرة، فشاهدوا جثث القائم مقام، ورجال الدرك الأتراك في مبنى إدارة الدولة، وقتلى الأتراك في الشوارع. المراقبون عدّوا ما حدث في منمن مجزرة، وليس معركة.
"اليونانيون فقط هم الذين كانوا يطلقون النار". كانت البيوت في المدينة خاوية ومنهوبة، وجرى إتلاف ما لم يُنهب. قُتل ما بين 300 إلى 400 تركي في المدينة، و1300 في الريف المجاور.
آيدين، المدينة الإقليمية الكبيرة، جرى الاستيلاء عليها دون مقاومة في 27 أيار 1919. وهي منطقة تركية السكان على نحو لا يقبل الجدل، لذلك كان الحلفاء يراقبون الوضع فيها بدقة. سجل المراقبون أعمالا بحق الأتراك تتراوح من التافهة كخلع الطرابيش عنوة (حتى عن المسيحيين واليهود)، إلى الاغتصاب والقتل تحت ذريعة التحقيق والاستجواب. استمرت أعمال مهاجمة الأتراك والاعتداء عليهم ونهب بيوتهم وقتلهم على نحو متواصل... أتراك كثيرون من آيدين والقرى المحيطة قتلوا وأحرقت قراهم ونهبت مساكنهم.
اليونانيون أبلغوا الأتراك المحليين أن الاحتلال اليوناني ليس مؤقتا، بل كان ضمّا لليونان. ولتعزيز ذلك اعتقلوا كافة الموظفين الأتراك، بمن فيهم والي السنجق، وقضاة، وموظفي إدارة التبغ وغيرها.
روايات البريطانيين عن آيدين، أكدت الملخص الذي قدمه العثمانيون إلى مؤتمر فيرساي للسلام: "من أصل 30 ألف تركي يعيشون في آيدين، لم يبق إلا بضع أسر، جرى تدمير 5800 منزل، وإحراق 81 قرية تركية في ضواحي المدينة". وقدر الأتراك عدد القتلى بألفي مسلم، و300 إلى 400 مسيحي.
أدرجت الحكومة العثمانية بالاسم 76 قرية في وادي مندر دمرها اليونانيون، في أثناء اجتياحهم الأولي للمنطقة. ومع تقدم اليونانيين إلى مدينة أيوالي, نهبوا جميع القرى التركية في طريقهم. "جميع القرى التركية مهجورة من الناحية العملية، لكن السكان الذين فروا على عجل لم يستطيعوا أخذ أي من أمتعتهم معهم".
عشرات القرى ما بين صواندرة وآق حصار، جرى تدميرها وقتل جميع سكانها. كثير من المدنيين.
استمر النهب في أيازمند وحدها ثلاثة أيام، ونقل أكثر الغنائم بالقوارب إلى متيلنة، وأصبحت مدن كآيدين وأوده مش مراكز تجميع البضائع المنهوبة، لبيعها في الأسواق، أو إرسالها إلى اليونان.
كان من أسوأ ما حصل، نهب وإتلاف المواشي، وخسارة الأخشاب التي تستخدم في البناء، نتيجة حرق أحراج الأناضول وغاباتها المترعة.
في نهاية الحرب، أحصت الحكومة التركية بالأرقام، نحو 200 ألف بيت مدمر في مدن وأرياف غرب الأناضول، وما يربو على مليون و700 ألف من المواشي التالفة، وقدرت وكالة اللاجئين العثمانية أن عدد الأتراك اللاجئين في غرب الأناضول، بلغ 350 ألفا في ربيع عام 1919، وفي عام 1920، كان هناك نحو 800 ألف لاجئ في الداخل، أي وسط الأناضول، 200 ألف منهم من تراقيا الغربية، و507 آلاف من شرق تركيا، و150 ألفا من الأحداث الجديدة في منطقة إزمير.
وفي مؤتمر لوزان للسلام، قدم الأتراك إحصاءات تفيد بأن مليونا ونصف مليون تركي أناضولي، أُبعدوا أو ماتوا في منطقة الاحتلال اليوناني، وكانت الروايات الأوربية عامة تؤيد تقديرات الأتراك. ورجحت بدورها، أن نحو 640 ألف مسلم، ماتوا في منطقة الاحتلال في أثناء الحرب، وأن نحو 860 ألفا كانوا لاجئين.
في الجزء التالي والأخير (3)، سنعرض لانكسار اليونانيين وهزيمتهم في معركة سكاريا، وانسحابهم النهائي تجاه إزمير، ثم عودتهم لليونان، وما ارتكبوه أثناء ذلك من فظائع ومجازر منظمة، بدافع اليأس وانعدام الأمل بجمهورية يونانية على الشواطئ الشرقية لبحر إيجة... ونهاية هذه الصفحة الدامية من حروب اليونان والأتراك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس