سعيد الحاج - عربي21
كثيرة هي الملفات التي حملها الرئيس التركي معه للقاء نظيره الأمريكي في واشنطن، كثيرة ومتشابكة ومعقدة. تنوعت تلك الملفات بين ما يرتبط بالقضية السورية مثل عملية نبع السلام وتفاهماتها والمنطقة الآمنة وعودة اللاجئين والدعم الأمريكي لوحدات الحماية، وبين الملفات الاستراتيجية مثل صفقة "S400" ومقاتلات "F35"، والعلاقات البينية، مثل قضيتي فتح الله كولن ومصرف "خلق"، فضلا عن العلاقات التجارية والاقتصادية المباشرة.
السياق السلبي الذي أجريت الزيارة والقمة خلاله، والمتمثل برسالة ترامب المحرجة لأردوغان وتصويت مجلس النواب الأمريكي على قرارات وعقوبات ضد أنقرة، خفضت كثيرا من سقف التوقعات من اللقاء، بل هددت في فترة سابقة بإلغائه، إلا أن الرئيس التركي ارتأى إتمام الزيارة من باب أن اللقاء وجها لوجه مع ترامب، قد يكون فرصة لشرح وجهات النظر التركية له ومحاولة إقناعه بها.
كان هناك، إذن، رهان تركي على أن يحقق اللقاء المباشر بين أردوغان وترامب اختراقا كما حصل سابقا في أكثر من مناسبة، كما أثار قرار الأول بإتمام الزيارة بعد اتصال هاتفي مع الأخير؛ تكهنات باحتمال صدور صيغة استدراك أو اعتذار عن الرسالة غير الدبلوماسية بما يقلل من حرج أنقرة.
لكن القمة، والمؤتمر الصحفي الذي تبعها، لم تسفر في عمومها عن اختراقات مهمة إلا في الشكل ربما، ذلك أن الاحتفاء بأردوغان والوفد التركي المرافق له كان واضحا، وكذلك المدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها المباحثات، فضلا عن اجتماع أردوغان بعدد من أعضاء الكونغرس المؤثرين، في مقدمتهم السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام، الذي قاد حملة الضغط على تركيا والمطالبات بعقابها مؤخرا.
إلا أن مخرجات القمة لم تحمل اختراقا مهما أو اتفاقا ما بخصوص أي من الملفات الرئيسية، باستثناء تطورين إيجابيين بالنسبة لأنقرة؛ أولهما تجنب أزمة أو قطيعة مع الولايات المتحدة في حال كانت ألغت الزيارة، والعمل على بناء منحى إيجابي في العلاقات البينية، وهو ما عبر عنه أردوغان بالحديث عن "فتح صفحة جديدة في العلاقات"، والثانية وَقْف السيناتور غراهام مشروع التصويت على اعتبار أحداث 1915 إبادة جماعية بحق الأرمن في مجلس الشيوخ بعد لقائه بأردوغان، قائلا إنه "ليس على النواب أن يعيدوا كتابة التاريخ أو أن يظهروه بشكل مختلف".
ما عدا ذلك، فإن ما تبدى على لسان الزعيمين لم يكن إلا تثبيتا لمواقف بلديهما المعروفة من القضايا الخلافية العديدة. فقد كرر أردوغان حق بلاده في مكافحة الإرهاب واعتبار وحدات الحماية امتدادا للعمال الكردستاني، بينما أكد ترامب استمرار بلاده بالتعاون معها في سوريا.
كما كان لافتا أن الرئيس التركي عرض على نظيره الأمريكي مقطع فيديو لقائد قوات سوريا الديمقراطية فرهاد عبدي شاهين، المعروف باسم "مظلوم كوباني"، يتضمن العمليات الإرهابية المسؤول عنها الأخير على الأراضي التركية، وأنه "الابن المعنوي لعبد الله أوجلان"، زعيم العمال الكردستاني، المعتقل في تركيا. هدفت هذه المبادرة لقطع الطريق أمام إمكانية استضافة كوباني في واشنطن، كما ألمح لذلك ترامب وعدد من المسؤولين الأمريكيين، إلا أنه لم يصدر عن الطرف الأمريكي نفي أو استدراك بخصوص هذه الزيارة المفترضة خلال لقاء أردوغان أو حتى بعده.
فيما يتعلق بصفقة "S400"، أعاد أردوغان التأكيد أنها لا تضر بأمن حلف الناتو والمقاتلات الأمريكية، إلا أن ترامب أشار بين طيات حديثه إلى رغبة بلاده بعدم استخدام تركيا للمنظومة وإبقائها غير مفعّلة، فضلا عن أن حصة أنقرة في مقاتلات "F35" ما زالت غامضة، رغم إشارة ترامب في تصريحاته إلى أنها شريكة في المشروع.
وأما المطالبات التركية المتعلقة بفتح الله غولن، المتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، وكذلك التحفظات التركية بشأن قضية مصرف خلق الحكومي في الولايات المتحدة، فقد بقيت (فيما يبدو وفق المعلن حتى اللحظة) دون إجابات شافية من واشنطن.
كما أن رسالة ترامب المسيئة بقيت دون استدراك رسمي من الولايات المتحدة، واكتفى أردوغان بصيغة "إعادة تقديم" أو إعطاء الرسالة لترامب تعبيرا عن رفض مضمونها وأسلوبها، وهو ما انتقدته المعارضة التركية التي كانت تطالب بـ"رد" الرسالة للإدارة الأمريكية ورفضها بشدة.
ومن ثم، يمكن القول إن زيارة الرئيس التركي منعت مزيدا من الانحدار والتراجع في العلاقات مع الولايات المتحدة، وجنبت بلاده التداعيات السلبية لفكرة إلغاء الزيارة كما كان واردا وكما طالبت المعارضة التركية. كما أن القمة أتاحت الفرصة لأردوغان للتعبير عن مواقف بلاده إزاء مختلف القضايا بقوة وبشكل مباشر، لكنها لم تحقق اختراقا كبيرا في أي منها، إذا ما استثنينا إلغاء تصويت مجلس الشيوخ على قرار "الإبادة"، وهو أمر رمزي في نهاية المطاف.
ما يعني في المحصلة، استمرار العلاقات التركية- الأمريكية في المستقبل المنظور على ما هي عليه اليوم ومنذ سنوات عديدة، أي التأرجح بين التأزيم والانفراجات النسبية على قاعدة من فجوة الثقة المتبادلة والخلافات والاختلافات حول قضايا عديدة في السياسة الخارجية، وعدم مراعاة واشنطن لحساسيات أنقرة وتحفظاتها المتعلقة بأمنها القومي. يرجح ذلك استمرار التفاهمات التركية- الروسية وتعمقها أكثر فأكثر على المدى المنظور، دون أن يعني ذلك قطيعة مع واشنطن أو انتقالا من محور لآخر أو تحالفا راسخا (لا يملك المقومات الرئيسة) مع موسكو، وإنما هي محاولات التنويع والتوازن للحفاظ على المصالح وتقليل الضغوط والمخاطر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس