ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس
كان يلهث ووجهه يبدو عليه الشحوب لا من مرض أصابه فقد كان شابا رياضيا لم يتجاوز عمرة الثامنة عشرة، لكن المجهود الذي بذله أحمد ليحصل على مقعد في الحافلة التي ستقل اللاجئين السوريين إلى ولاية إدرنة على الحدود مع اليونان بمثابة غنيمة حرب خاضها أحمد مع آلاف الشباب الذين انتظروا على جانب الطريق في حي الفاتح وسط إسطنبول، لكي يحظوا بمقعد في أحد هذه الحافلات، بعد أن قررت السلطات التركية فتح طريق الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان وبلغاريا.
وضع أحمد جسده على المقعد رافعا عينيه إلى السماء تارة وإلى الشباب المتدافع حول باب الحافلة في محاولة يائسة بعد أن امتلأت الحافلة تارة أخرى، وطاف بمخيلته حول المستقبل الذي ينتظره في أوروبا، التي طالما سمع عنها، وعن الاستقبال المتميز من الحكومات فيها، في محاولة لدمج المهاجرين الجدد في مجتمعاتهم التي اختاروها طوعا بعد رحلة مصاعب وصولا إلى الأرض الجديدة، لكن هذا الخاطر كان يقطعه حالة من خفقان القلب الناتج عن الخوف الذي ينتابه من التفكير في تلك الحياة الجديدة التي لا يعرف كيف ستكون، لقد كان أحمد ابن ثمان سنوات حين غادر حلب مع بداية الثورة السورية بعد أن قصف النظام مدينته، الأمر الذي جعل والده يأخذ القرار بترك المدينة، ككثير من سكانها، باتجاه إسطنبول، لقد دخل أحمد المدرسة في حي الفاتح وأصبح له أصدقاء أتراك، استقبلوه في بداية وصوله بمزيد من الترحاب، وكان يرى أمه تدخل عليهم بالأطباق الشهية عند وجبة الغداء، إكراما من الجيران الأتراك للمهاجرين إلى بلادهم، يتناوب عليها الجيران، أحمد لم يعرف بلدا له سوى تركيا، فلقد ربطته بشوارعها وأناسها علاقة لم يكد يعرفها في مدينته حلب، لذا لقد كان ترك هذه المدينة الجميلة وناسها الطيبين ينازعه مع مستقبل يحلم بأن يكون جميلا.
بجوار أحمد جلس رجل أربعيني استطاع أن يحظى بمقعد إلى "الجنة" كما يحلم شركاء الحافلة، فالكل ينتظر الوصول إلى اليونان مفتاح أوروبا وبوابة النعيم، تحركت الحافلة ولم تتوقف الهمهمات بين الأصدقاء الذين اتفقوا على تشارك المغامرة إلى أوروبا، بعد أن فُتحت الأبواب وأُزيلت العقبات، وأصبح المسافرون أحرارا من سطوة المهربين الذين علت أجورهم لتهريب اللاجئين غير الشرعيين في ظل التضييق الأمني من الأجهزة الأمنية التركية.
بعد أن تركت الحافلة حدود ولاية إسطنبول باتجاه إدرنة، وبعد أن دخل الجميع في شبه صمت تام، قطع ذلك الصمت أحد الشباب قائلا: أخيرا تحررنا من هذا البلد البغيض، تخلصنا ممن كان يسبنا ويضيق علينا في العمل والسير والكلام والنفس.. منذ أن وصل أكرم إمام أوغلو إلى رئاسة بلدية إسطنبول وأصبح لا حياة لنا في إسطنبول ولا تركيا كلها.
رد عليه الرجل الجالس بجوار أحمد: هذا كلام لا يصح.
فرد الشاب: بل يصح، ألم يضيق علينا في معاشنا وعملنا؟!، ألم تفرق الأسرة الواحدة لمجرد أن أحدهم يحمل وثيقة صادرة من أحد الولايات والآخر وثيقته صادرة من إسطنبول؟!، ألم يمنعنا العمل؟!، ألم يزجرنا الناس عند سماعنا نتكلم بلغتنا؟!، ألم نعد مبغوضين يفتعل معنا البعض المشاكل لتكسير محلاتنا وتحطيم سياراتنا؟!
هنا قاطعه الرجل الجالس جوار أحمد مرة أخرى: هذا كفران للعشرة، لقد آوتنا تركيا وقت أن طردنا النظام وعالجتنا بعد أن أصابتنا براميل النظام، وفتحت لنا أسواقها بعد أن دمر متاجرنا النظام، وفتحت مدارسها، بعد أن مُنع أبناءنا التعليم في بلادنا، لقد كان لنا هذا الشعب أنصارا وقت أن كنا مهاجرين.. حتى سفرتك هذه هي منحة من الأتراك، لم يرغمنا عليها أحد، إن كان الحال قد تبدل في السنتين الأخيرتين، فلا يعني ذلك أن الأتراك لم يحملونا، كما أننا لم نقدم أنفسنا بالشكل اللائق مع ما قدمناه لتركيا، فالشعب التركي لم يعرف كم قدمنا له من تضحيات، الشعب التركي لم يعلم ارتباطنا بهذا البلد، نحن لم نستطيع إظهار حقيقة امتناننا لهذا البلد ولهذا الشعب.
دمعت عيني أحمد من كلام جاره في الحافلة، وقلّب نظره بين السماء وخضار الطريق، متفكرا في معنى الوطن، فأحمد لم يعرف وطنا غير تركيا، ولم يكوّن صداقات إلا في تركيا، وتحصل على شهادته قبل الجامعية في تركيا، حتى حديث الكراهية الذي كان يسمع عنه ويشاهد مقاطع مصورة له، لم يعايشها في بلده الثاني تركيا، لقد كان الوطن عند أحمد مرادفا للأمان والحق والحب والدفء والأصدقاء، الوطن هو الانتماء للمكان والإنسان، الوطن هو التألم لألم ناس تلك الأرض، والفرح لفرحهم، الوطن عند أحمد تلك الجبال الخضراء والمآذن المرتفعة والأسواق المنصوبة يوم الثلاثاء في حي الفاتح، الوطن هو كأس الشاي الذي يقدم للضيف عند وصوله، الوطن هو مجموعة مشاعر تختلط ترفع من قيمة الإنسان من دون انتظار لحاجة في المقابل، في هذه اللحظة فقط استفاق أحمد من حديث الخاطر ليصرخ في سائق الحافلة أن توقف، فلقد قرر أحمد ألا يهجر الوطن.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس