ياسر عبد العزيز - مدونات الجزيرة
وكأن الزمان عاد بهم أربع سنوات للوراء، بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية فوق حدودها، لقاء جاء باهتا كأول لقاء بين الرئيس التركي أردوغان ونظيره الروسي بوتين، فبالرغم من انتظار العالم لهذا اللقاء إلا أن عدسات الكاميرات كشفت نتائج اللقاء قبل أن يخرجا في مؤتمرهما الصحفي لإعلان ما تم التوصل إليه في أزمة إدلب بحسب البعض، هذا الانطباع الذي جعل البعض ينظر إلى مخرجات اللقاء على أن تركيا عادت من سفرة موسكو خالية الوفاض، لاسيما وأن أثناء اجتماع الرئيسين كانت طائرات المضيف تلقي بقنابلها مرحبة بزيارة الرئيس التركي على أهالي إدلب "الإرهابيين كما يراهم الروس" في صورة تؤكد المنظور الروسي لمن تقاتل في سوريا.
تمادى البعض في قراءة رسائل لا يمكن قراءتها إلا في سياقها، تحميلا لبروتوكولات عادية أكثر مما تتحمل كوقوف الوفد التركي أثناء دخول الرئيس أردوغان على بوتين صفا بجوار الحائط، وتعمد الروس وضع تمثال للملكة كاترين - التي هزمت العثمانيين في الماضي- وتجاهل بوتين السلام على الوفد التركي، وهي كلها أمور لم تكن أن يتعمدها الروس بأي حال من الأحوال، فوقوف الوفد التركي جوار الحائط قابله وقوف الوفد الروسي في الجهة المقابلة، ووضع تمثال الملك كاترين تعمدا، أمر لا يعقل إذ أن التمثال موضوع منذ مئات السنين، والبرتوكول يجعل الضيف على يمين المضيف، الذي تصادف أن يكون التمثال في جهة وفده، أما تحية بوتين للوفد التركي فقد حدثت ورآها الجميع، لكن في النفس شيء يفرغ في الصغائر.
وبعيدا عن الشكليات، فقد جاءت الزيارة ناجحة إلى حد بعيد للطرفين وإن كانت تركيا الرابح الأكبر لهذه الأسباب، بنظرة صغيرة على مخرجات اللقاء الذي جاء في المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيسين بالإضافة إلى وزيري خارجية بلادهما نجد أن بوتين بدأ كلمته بتقديم التعازي للشعب التركي في مقتل الجنود الأتراك في إدلب، وهي بمثابة اعتذار عن الخطأ الروسي الذي أوضحه وزير الخارجية وعاد ليكرره الرئيس بنفسه، مع تحميل النظام السوري تبعات كل ما جرى، وهنا نقف عند المحددات والدوافع التي يتحرك في إطارها النظام، إذ يخطئ من يرى أن روسيا تسيطر بالكامل على القرار في دمشق، فالإيراني المتواجد في أروقة قصر الشعب بدمشق منذ زمن له حصة في ذلك القرار، وهو ما جعل لبشار الأسد مساحة مناورة، وهي المساحة التي جعلت قواته تضرب نقطة المراقبة التركية في إدلب وتفتح باب القصف المتبادل، ومن ثم فإن روسيا التي سمحت لتركيا بتكبيد النظام ما يقارب الألف عنصر سواء من الجيش أو الميليشيات الموالية، كان لسحب تلك المساحة التي تمتلكها طهران في القرار السوري، ترجم ذلك في إعلان وزارة الدفاع التركية في ليلة البدء في وقف إطلاق النار عن مقتل 21 من أفراد الجيش السوري وتدمير مدفعين وقاذفتين للصواريخ، وذلك ردا على مقتل جنديين تركيين في إدلب، وهو ما يفتح الباب أمام ضوء أخضر روسي لتهذيب دمشق.
ثانيا تأكيد الرئيسين على وحدة الأراضي السورية معناه الذهاب إلى الحل السياسي والتأكيد على أن ذلك الحل سيكون بالأساس بيد كل من أنقرة وموسكو، وأن الوقت كفيل بترتيب الأوراق، حيث التفاهمات على الأمور العالقة مع الوضع في الاعتبار، رغبات كل من إيران وأمريكا ونصيب أوروبا من الحل النهائي، سواء من ناحية النفوذ، أو كعكة إعادة الإعمار، وهو الحل الذي تتبناه الأمم المتحدة وسيجد تأييدا من أعضاء الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وهو أهم عنصر لتمريره بالنسبة للرئيسين المجتمعين في موسكو، وهو ما عرقلته أمريكا في مجلس الأمن في جلسته الأخيرة منذ أيام، وسنعود لذلك في سياق التحليل.
ثالثا فتح ممر آمن لوصول المساعدات لأهالي إدلب انتصار أخر لتركيا موجه بالأساس للداخل الذي يموج بالقلق من موجة نزوح جديدة ستكون الأكبر والأخطر وستفاقم الأمور اقتصاديا واجتماعيا وتؤثر على الحزب الحاكم الذي تضغط عليه المعارضة بهذه الورقة، فلا هي تقبل بالحرب في سوريا لمنع وصول النازحين، ولا هي ستقبل بوصول النازحين إن هم هربوا باتجاه تركيا- المخرج الوحيد - لهم من القتل، لذا نجد أن الرئيس التركي في كلمته في المؤتمر الصحفي بعد الاجتماع قال: (لن نقبل أن يلوي ذراعنا أحد وسنعمل على حماية المدنيين عبر نقاط المراقبة، فضرب المدنيين يهدف إلى نزوحهم نحو تركيا لحشرنا في الزاوية)، وتأكيدا على ذلك ومخاطبا الداخل، لاسيما بعد جلسة البرلمان التركي التي شهدت تشابك بالأيدي بين المعارضة والحزب الحاكم بخصوص النازحين، قال الرئيس أردوغان: (سنعمل على إعادة النازحين إلى منازلهم التي نزحوا منها خلال الأيام السابقة)، لذا فإن ترتيب تلك الورقة سيرتب أوضاعا كثيرة في الداخل التركي ويرفع كثيرا من الضغوط من على كاهل الإدارة التركية.
رابعا استطاعت تركيا وروسيا مشتركتان نزع فتيل المواجهة المباشرة بينهما في سوريا، وترسيخ علاقة مقبولة لكنها برأيي "حذرة" بين البلدين وهو ما عبر عنه الرئيس أردوغان اثناء عودته من موسكو للصحفيين بقوله: (علاقاتنا مع روسيا لا يمكن تشبيهها بشيء آخر، هناك خطوات مشتركة لنا في الصناعات الدفاعية، والطاقة النووية، وخط السيل التركي، والسياحة، نعيش اليوم مرحلة التخطيط للتعاون مع دولة ثالثة، لكن القطط السوداء تتدخل، وعندما سأله أحد الصحفيين: أتقصد إسرائيل؟ فأجاب الرئيس: لا.. هي أضعف من ذلك) وهنا يمكن أن نقول أن هناك سبب خامس للقول بأن اللقاء بين أردوغان وبوتين كان ناجحا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس