ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس
من فرانكو اسبانيا إلى سيسي مصر لا يمحو التاريخ جرائم العسكر، وفي تركيا التي شهدت خمسة انقلابات يروي لنا أحد شهود العيان بل والمنخرطين في جريمة إعدام شهيد الآذان عدنان مندريس كيف أذل العسكر واحد من أعظم رؤساء الوزراء الأتراك وأول من جاء بإرادة شعبية حقيقية، بعد أن استحوذ حزب الشعب الجمهوري على الحكم بالتزوير والقمع حتى اخترق مندريس هذا الجدار الفولاذي منذ نشأت الجمهورية، إنه رجل الدولة والحقوقي عدنان مندريس .. بطل القصة؛ وراويها الضابط "مظفر أركان" والذي تواجد في الجزيرة التي اعدم فيها البطل.
يحكي أركان الساعات الأخيرة للشهيد مندريس فيقول: عند وصول السفينة إلى الجزيرة ، كانت المروحيات تحلق فوقها، والجنود على أهبة الاستعداد، وبمجرد أن وضع مندريس قدمه على الجزيرة صعق مندريس من المشهد، فقد وجد نفسه واقفا أمام الملازم ثاني كمال واليوزباشي إسماعيل سيدال، وتم خداع مندريس بإخباره أنه ذاهب إلى إسطنبول لتلقي العلاج، كان الرجل مريضا جدا ولا يقوى على الحركة، ونائما في فراشه في محبسه على جزيرة ياسي، وقيل له أنه سيرى أبناءه وللإمعان في خداع الرجل أحضر له أفخر الثياب حتى يخرج معنا في هدوء، ولم يكن الرجل ليقوى على غير ذلك، يؤكد الضابط مظفر أركان أنه تم إخراج مندريس من غرفته وهو لا يستطيع الوقوف على قدميه، مع ذلك وقع اللواء العسكري قرار الإعدام، بالمخالفة للقانون، لكن العسكر وحزب الشعب الجمهوري كان يرغب في إعدامه في أسرع وقت.
وصل مندريس إلى جزيرة أميرالي التي سيعدم فيها مندريس وحاولوا إذلال الرجل قبل الإعدام، فقام الملازمان كمال وطغرل بتحضير كفنه أمامه، وقام طارق جورياي القائد العسكري للجزيرة بالسخريه منه بالقول: (مع السلامة يا مندريس، ثم عاد وقال: ها أعذرني نسيت أنه لا يقال "مع السلامة" لشخص ذاهب للموت).
كان الجلاد الذي نفذ الحكم في الثلاثينيات من عمره، اقترب من مندريس واضعا حبل المشنقة حول رقبته ثم قال وهو ينظر إلى حذاء مندريس: (إن هذا الحذاء سيكون لي بعد انتهاء الإعدام)، لكن مندريس محافظا على صلابته وكرامته إلى آخر نفس.
قاموا بإحضار طبيب من مستشفى "أوسكودار دينيز" للجزيرة لعلاج مندريس حضر الطبيب، والكلام لازال للضابط أركان، ثم أخرج من جيبه مرهما ووضعه على فتحات أنف مندريس حتى استعاد قوته وبدأ بالمشي والوقوف على قدميه وعلى الرغم من ذلك وقع اللواء على قرار إعدام رئيس وزراء تركيا لعشر سنوات. ويضيف أركان، لقد كنت شاهدا على هذه اللحظة التاريخية التي لم أنسها طوال عمري فأنا ممن أشرف على إعدام وزير الخارجية في حكومة مندريس ووزير ماليته، ورأيت كيف كانا في أتم صحتهما، أما مندريس فقد كان نصف ميت، وعند صعوده لمنصة الإعدام كان جسده يرجف من الألم بسبب مرضه الشديد، حاول منفذ حكم الإعدام مساعدته في الصعود، لكنهم أرادوا إذلاله، فجروه جرا إلى منصة الإعدام، لم يكن مندريس جبانا لكنه كان مريض، رأيته رابط الجأش، استغلوا مرضه ليذلوه.
آخر ما أكل مندريس ثمرة خوخ، إذ أنه ,لشدة مرضه لا يستطيع أن يأكل أكثر من الفاكهة، لقد شاهدت تلك الثمرة في يده وأنا أصطحبه إلى الجزيرة التي سينفذ فيها الإعدام، لم يمهلوا الرجل، لقد أعدموه، لقد رأيت بقايا الثمرة تلطخ كفنه بعد إعدامه، لقد كانوا يتشفون به، لقد أرادوا إذلال من وراءه، وإمعانا في إذلال أسرته صادروا ممتلكاته، حتى بيته أخرجوا أسرته منه، بل وطالبوا بأتعاب من منفذ حكم الإعدام، وثمن الصابون الذي غسل به مندريس وثمن الكفن.. انتهى كلام مظفر أركان.
لكن الكلام لم ينتهي والقصة لها بقية جزء منها نراه الآن بتخليد اسم الرجل الذي أراد لأمته أن تعود لهويتها ومجدها وأن يخرجها من فقر وجهل حزب الشعب الجمهوري الذي أفقر تركيا وأظلمها، فقد كانت أخر كلمات مندريس كنت رئيسا للوزراء لمدة10سنوات، وسيكتب التاريخ إنجازات ثمان منها فقط وسنتين فقضيتها في المجاملات الرسمية، لقد حلمت دائما أن أعلم ابني يوكسيل في مدارس الدولة،لأجل ألا يكون أولادنا مثلنا ويعيشوا ما عشناه، ورغم إعدام مندريس فإن جلاديه يحاكمون شعبيا ويلعنون كل يوم.
أما الجزء الثاني فهو ما سنشهده جميعا في جمع غفير لا يستطيع محامي أن يدافع ولا أن تزور الأدلة، وتلفق الأوراق، ولا يشهد الشهود بغير الذي كان، فالقاضي وقتها يعلم كل شيء ولا يكذب عليه أحد ولا يخفى عليه شيء، لكن العسكر تغرهم مناصبهم وتسحرهم سطوتهم، فمهما ظنوا أنهم يستطيعون تغيير الحاضر فإن التاريخ سيحاكمهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس