ياسين أقطاي - يني شفق

منذ أن بلغني الأسبوع الماضي خبرُ رفع دعوى قضائية ضد نوراي مرت بتهمة "الانتماء إلى تنظيم إرهابي"، مرّت أمام عينيّ الأربعون عامًا الأخيرة التي عشناها في تركيا كما لو أنها شريط سينمائي شاهدته مرارًا وتكرارًا. ما الذي يحدث؟ وإلى أين نمضي؟ أرسلت الخبر إلى عدد من الأصدقاء وطرحت عليهم نفس السؤال: ما الذي يجري؟ وقد علم العديد من أصدقائنا المشتركين القدامى بالخبر مني. وكانوا هم أيضًا في حالة من الذهول.

يمكن قول الكثير عن نوراي مرت، فهي في النهاية شخصية ذات أفكار ومواقف حادة تزعج الكثيرين. لكن هناك شيء واحد لا يمكن إلصاقه بها، ولا حتى تلفيقه حولها، بل لا يمكن تصوره في شخصها، وهو "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" أو حتى مجرد الانتماء إلى أي تنظيم. فهي شخصية مستقلة الفكر، معارضة في جوهرها، إلى درجة تجعلها غير قابلة للانضمام إلى أي تنظيم. وبقدر ما أعلم، ففي كل المحافل التي شاركت فيها، لم تتردد أبدًا في قول ما تراه خطأً وفق مبادئها، وربما لهذا السبب لم تستطع أن تحتل موقعًا داخل أي هيكل أو تنظيم.

ولو سألتم عن العبارة التي تعبّر عن نهجها السياسي وأسلوبها في الحياة، لربما كانت "أن تكون دائمًا معارضًا" هي أول ما يمكن أن تسمعوه. وقد نشرتْ بالفعل كتابًا تحت هذا العنوان. أما عني شخصيًا، فلا أتفق مع هذا النهج السياسي. فقد حاولت في إحدى النقاشات أن أذكّر الذين يتوقعون من الإسلاميين أن يكونوا دومًا في موقع المعارضة، بأن الإسلام بكل أسسه النظرية، لا يضع "البقاء في المعارضة" كغاية أو مبدأ. بل على العكس، فإن تجربة المدينة كتجربة مكة، تحمل في طياتها مراحل من الحكم والمشاركة. على أي حال، هذا رأيي الشخصي، ولا أحد ملزم على تبنيه، ولا سيما نوراي مرت. وأنا لا أذكر هذا الاختلاف من باب نقدها أو الدفاع عن وجهة نظري، بل لأؤكد مدى عبثية اتهامها بعضوية تنظيم إرهابي، وافتقار هذا الاتهام لأي منطق أو عقلانية.

تعود معرفتي بنوراي مرت إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي. ومنذ اللحظة الأولى التي تعرفت فيها عليها، نشأت بيننا صداقة راسخة كانت تغتني بحوارات مثمرة وقوية رغم اختلافاتنا. وخلال فترة ما بعد انقلاب 28 فبراير، انضمت إلى هيئة تحرير مجلة "تذكرة" التي كنا نصدرها في أنقرة مع مجموعة من الأصدقاء، وقدمت إسهامات رائعة وكتبت مقالات قوية للغاية. وفي عام 2003، وخلال مؤتمر الشرق، انطلقنا مع حافلة مليئة بالمثقفين إلى سوريا، التي ذُكرت كهدف ثانٍ بعد غزو الولايات المتحدة للعراق، وذلك للتعبير عن موقف المثقفين الأتراك الرافض للغزو الأمريكي للعراق.

وخلال تلك الفترة، وحتى عام 2007، تناولنا العديد من القضايا التي مرت بها البلاد والعالم مع العديد من المثقفين والمفكرين، تناقشنا وتبادلنا الآراء، واتفقنا في بعض النقاط واختلفنا في أخرى، لكننا لم نتهم بعضنا البعض بأي شيء قط. ويمكنني القول إن أعظم ما فقدناه لاحقًا في مسار الأحداث هو تلك الأرضية التي كانت تتيح للمثقفين من مشارب فكرية وشخصيات متباينة أن يتناقشوا بصراحة، وأن يُفسح كلٌّ منهم للآخر مجالًا للتعبير عن رأيه وذاته. لا أدري متى ولا لماذا اختفت هذه الأرضية تحديداً. ربما كان الأمر انفصالًا تدريجيًا يسير ببطء من قبل، لكنني أعتقد أن الانفصال الكبير حدث مع أحداث "جيزي". بالطبع، لسنا في وضع يسمح لنا بتحديد الأسباب والمسؤولين هنا بسرعة وإصدار أحكام بشأنهم.

أما في عام 2007، وكما ذكرت نوراي مرت نفسها في كتابها الأخير، فقد تباينت مواقفنا بشكل حاد بسبب موقفها من انتخابات الرئاسة آنذاك. انتقدتُ موقفها علنًا، دون أن أُخلّ بأدب النقاش أو أسيء لها. وبعد ذلك، اختلفنا في العديد من القضايا، لكنني لم أشكّ يومًا في صدق نواياها أو اتهمها بالانتهازية أو عدم الإيمان بما تكتبه أو تعبر عنه. بل على العكس، كنت أحرص دائمًا على الاستماع إليها، حتى عندما تطرح أفكارًا كنت أعتبرها غير جديرة بالتفكير عندما أسمعها من الآخرين، وحتى التي لم تكن يروق لي. وقد قرأت كتابها الأخير أيضًا ("الغرب أحب الإسلام كثيرًا - سياسات الغرب تجاه الإسلام والإسلاموية، دار إيلتشيم للنشر، 2022)، وكان لدي الكثير من الاعتراضات عليه. وكنت أعتزم الكتابة عنه مرارًا، لكنني لم أجد الفرصة المناسبة. على أي حال، ليس هذا هو موضوعنا الآن.

وفي الحقيقة، لا يمكننا تجاهل المناخ العام الذي دفع نوراي مرت اليوم إلى "توديع" الكتابة والحديث في الشؤون السياسية. ومن المؤكد أنه ليس من الإنصاف اختزال هذا المناخ في كونه صنيعة الأوساط المقربة من السلطة وحدها. فالحال أن نوراي مَرت، وإن كانت تعترض اليوم على هذا التوصيف، تبدو وكأنها تم تهميشها في جميع الأوساط بسبب أفكارها ومواقفها. ولطالما شعرتُ بإعجاب خاص تجاه موقفها من ذلك، لكونها لم تُبدِ أي انزعاج حقيقي من هذا الإقصاء. إذ إن الإنسان الذي يقبل أن يُقصى، وأن يدفع ثمن مواقفه، ثم يصرّ على المضي في طريق قناعاته دون مساومة، يفرض الاحترام على الجميع، مهما اختلفوا معه. فأين رأينا إنسانًا يتمسك بقناعاته الخاصة ويُجمع الناس على قبوله؟

لقد تعرضت مرت لسخط شديد من عدة جهات؛ من صحيفة "جمهوريت" بسبب آرائها التي تنتقد الكمالية، ومن الأوساط اليسارية بعد أن فُسّر موقفها في الاستفتاء بأنه "نعم لكنها غير كافية"، ومن الأوساط الكمالية العلمانية "الحاكمة" آنذاك بسبب دفاعها عن الحجاب، وأظن أنها أيضًا لاقت هجومًا من أوساط "التنظيم" الذي اتُهمت بالانتماء إليه في سياق القضية الكردية. إن أوساط السلطة الحالية، إحدى الأوساط التي تم إقصاؤها منها.

والواقع أنه لم يعد هناك مركز وحيد أو سلطة واحدة تمنع الحديث أو تُمارس الضغوط أو تثير حملات التشهير. فقد بات لكل جماعة "عالَمها" الخاص، وفي كل عالَم هناك سلطة تمارس نفوذها، وآليات تمارس الضغط والإقصاء والتجريم. ولكن ما لا شك فيه أن أياً من هذه الأوساط أو مراكز النفوذ الأخرى لا تمتلك – خلافًا للسلطة السياسية – إمكانية توظيف "القضاء" كسلاح ضد الآخرين. وهذه يشكل معضلة أخلاقية كبيرة تُثقل ضمير كل صاحب وجدان، وتلزمه بالتصرف بموقف مختلف.

قبل 11 عامًا، أي في عام 2013، وخلال "عملية السلام" التي بدأت آنذاك، قامت نوراي مرت، مثل العديد من الصحفيين، بإجراء مقابلات مع أعضاء "تنظيم بي كي كي" الإرهابي وقامت بنشرها. وفي الجو الذي ساد آنذاك، أُعيد تشكيل تعريف الجريمة وطبيعتها وفقًا لذلك الجو، وتصرفت ميرت بجرأة أكبر في هذا المناخ، واثقةً من أجواء العملية التي تشكلت في تركيا، وبرزت كمن بادر بتحمل المسؤولية مساهمةً في دفع عجلة العملية. وبالفعل، صدر حكم بالبراءة في تحقيق فُتح في تلك الفترة، مشيرًا إلى أنه كان "في إطار عملية السلام". ورغم ذلك، ستُحاكم اليوم في محكمة الجنايات بتهمة "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" بسبب هذه القضية.

وأعلم أن تناول هذه القضية على أنها جزء من "محاولة السلطة إسكات معارضيها" يزيد من صعوبة تشخيص مشكلتنا الأكثر تعقيدًا. وإن سألتم: "كيف عرفت ذلك؟"، أقول إننا، بعد 22 عامًا من الحكم، أصبحنا نعرف — ولو جزئيًا — كيف تعمل المؤسسة القضائية في تركيا، من قضايا "أرغنكون" إلى "المطرقة" (باليوز)، ومن ثم قضايا تنظيم "غولن" الإرهابي وما تبعها من قضايا أخرى، لدينا مشكلة عميقة تتعلق بالعقل القضائي في هذا البلد.

بالطبع المشكلة هنا تتشكل وتتفرع ضمن علاقات معقدة مع السلطة والسياسة عمومًا. فقضاء يبدو وكأنه مطيع للسلطة ثم ينقلب ليحدد السلطة والسياسة بفرض الأمر الواقع هو مشكلة نموذجية. إنها مشكلة لا يمكن اختزالها في العلاقة مع السلطة فقط. فالقضاء دائمًا قوة تخلق وتدير أيديولوجيتها وسلطتها المستقلة وسلوكها الخاص.

إن اعتبار الضحايا الصغار الذين يعترضون الطريق أثناء التركيز على الهدف الكبير مجرد تفاصيل تافهة، والاستهانة بهم، ورؤية احتراق الأخضر مع اليابس أمرًا طبيعيًا، هو أكبر قاتل للعدالة. إن فكرة أن الكفاحات المشروعة تبرر حرق الأبرياء مع المذنبين، تفتح للأسف الطريق أمام أولئك الذين يتجاوزون الحدود حتى مع السلطة نفسها في كل هذه القضايا، وأولئك الذين يسعون إلى بناء سلطتهم الخاصة عبر القضاء، وتتركنا في مواجهة جرائم قضائية فادحة لا يمكن تداركها.

العدالة ليست في إحراق الأخضر مع اليابس، بل في التحلي بحساسية بالغة الدقة تعمل على فصل اليابس عن الأخضر مهما كانت الظروف.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس