سعيد الحاج - عربي21
لا يمكن بحال التقليل من حجم التطورات الميدانية الكبيرة والمتسارعة في المشهد الليبي ودلالاتها وبالتالي تأثيرها.
فحفتر الذي بدأ هجومه على طرابلس في نيسان/أبريل 2019، ثم تمنَّعَ عن توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في موسكو في كانون الثاني/يناير الفائت ومن بعده مؤتمر برلين آملاً أن يحسم المعركة سريعاً، خسر اليوم معاقله في الغرب الليبي الواحد تلو الآخر، وفي وتيرة متسارعة مثيرة للانتباه.
ولا شك أن ذلك يضفي على حكومة الوفاق الوطني مشروعية ميدانية إضافة للاعتراف الدولي بها، واستقراراً للأوضاع في العاصمة، وتثبيتاً للدور التركي في الأزمة الليبية، وزيادة في حرج حفتر وداعميه الإقليميين. ولعل ذلك من ضمن أسباب السقف المرتفع لتصريحات مسؤولي حكومة الوفاق، الرافضة للتفاوض مع “الانقلابيين” والعازمة على “تحرير وتوحيد” كافة الأراضي الليبية قبل المبادرة المصرية وبعدها.
انهيار غامض لقوات حفتر
رغم صحة كل ما سبق، والدلالات البالغة للتطورات الأخيرة وتأثيرها على مجريات الأزمة، إلا أنه من المبكر الجزم بالمآلات النهائية وتأثير التطورات الحالية على الحل النهائي للأزمة، بل إن التقييمات بهزيمة كبيرة وجازمة لحفتر وقدرة حكومة الوفاق على الذهاب حتى الشرق تبدو مبالغاً فيها إلى حد كبير، لعدة اعتبارات.
ففي المقام الأول، ما زالت المعركة الأخيرة دفاعية بالنسبة لحكومة الوفاق، التي سعت لكسر الحصار عن طرابلس ومحيطها ثم إبعاد قوات حفتر بالتدريج عنها، بعد أن كانت الأخيرة سيطرت على عدد من المدن والبلدات ضمن ما أسمته “معركة تحرير طرابلس”.
كما أنه ليس من الواضح تماماً حتى اللحظة السبب الحقيقي لانهيار قوات حفتر بهذا الشكل، أكان بسبب عامل المفاجأة الذي أحدثته قوات الوفاق مستمرة الدعم التركي، أم التخبط في التعامل مع المستجدات المتتالية، أم بسبب بعض الأطراف الإقليمية والدولية ضغطاً على حفتر أو تعديلاً في الموقف أو حواراً مع الأطراف الأخرى لا سيما تركيا والولايات المتحدة. وبالتالي، ما زال من المبكر الحديث عن مسار باتجاه واحد لا عودة عنه لمصلحة حكومة الوفاق.
ثالثاً، تختلف معركة الشرق الليبي عن الغرب والجنوب جذرياً. فالشرق هو المعقل الرئيس لحفتر والقبائل الداعمة له، وفيها قوته العسكرية الأهم، فضلاً عن أهميتها الاقتصادية المرتبطة بالنفط. كما أن قرب المنطقة من الحدود المصرية يزيد من أهميتها بالنسبة للأخيرة والمحور الإقليمي الداعم لحفتر وبالتالي يجعل أمر السيطرة عليها مهمة أصعب مما تبدو بكثير.
ومن أهم العوامل المؤثرة في مصير الشرق ومستقبله الموقف الروسي الذي تبدى عبر إرسال مقاتلات مؤخراً لليبيا يمكن قراءتها كتثبيت للوضع القائم في الشرق أو ربما دعم حفتر في هجوم ارتدادي محتمل ضد حكومة الوفاق.
وفي مقابل المركزية والمؤسسية اللتين تمتاز بهما قوات حفتر إلى حد كبير، فقد عانت القوات المنضوية تحت حكومة الوفاق طويلاً من التشتت وغياب وحدة التحكم والقيادة بشكل هرمي ومركزي، وهو الأمر الذي عمل عليه الأتراك بشكل كبير ويبدو أنهم قطعوا فيه شوطاً مؤخراً.
المواقف الإقليمية والدولية
كما أن مواقف القوى الإقليمية والدولية ذات أهمية استثنائية في سياق استشراف مآلات المشهد الميداني والسياسي، ومن مؤشراته الدعم الروسي الصريح والأوروبي الضمني وشبه المشروط للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، في مقابل الموقف التركي المشكك في دوافعها والرافض لها.
وبالحديث عن دور أنقرة، من المهم التذكير بأن سيطرة حكومة الوفاق على كامل الأراضي الليبية ليس من أولويات الأخيرة، على الأقل في المرحلة الحالية. ذلك أن مجمل التصريحات الرسمية التركية كانت تتضمن الدعوة لحل سياسي يشمل كافة الأطراف، بعد تحقيق الاستقرار والتوازن في المعادلة العسكرية، وبما يثبت حكومة الوفاق والاتفاق الذي أبرمته تركيا معها.
صحيح أن التصريحات التركية الأخيرة ترفض فكرة إشراك حفتر في العملية السياسية، لكن ذلك قد يكون من باب الضغط واستثمار التقدم الميداني للوفاق، وكأوراق تفاوضية مع مختلف الأطراف لا سيما روسيا، فضلاً عن أن استبعاد حفتر لا يعني بالضرورة سيطرة الوفاق على الشرق.
الولايات المتحدة ليست إلى جانب حفتر بالضرورة، حيث بشّر الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن باحتمال تغير الموقف الأمريكي. روسيا أيضاً ليست منحازة بشكل كامل وعلني له، لأسباب كثيرة منها علاقاته الأمريكية ورفضه التوقيع على اتفاق موسكو وتراجعه الأخير، وبإشارات مثل التواصل المستمر مع عقيلة صالح ودعم مواقفه وتصريحاته، لكن كل ذلك متعلق بحفتر كشخص وليس بالشرق كمنطقة وكيان سياسي بالضرورة.
وعليه، من المستبعد أن تكون أنقرة مهتمة بدعم معركة قد تفتحها حكومة الوفاق في الشرق، وهو الأمر الصعب بالمنطق العسكري كذلك، ما قد يستدعي مواجهة تركية – روسية غير مباشرة أعلى سقفاً من مجرد تواجه السلاحين التركي (المسيّرات) والروسي (المنظومات الدفاعية) على الأراضي الليبية كما حصل في الأسابيع الفائتة. ومما يدعم هذا التوجه أن تركيا ليست موجودة عسكرياً بشكل مباشر وقوي في ليبيا حتى اللحظة، وإنما تكتفي مرحلياً بدعم حكومة الوفاق بكافة الوسائل المتاحة.
في المحصلة، ما حصل خلال الأيام والأسابيع الفائتة في ليبيا مفاجئ ومهم وله دلالاته، وسيكون له بالتأكيد تأثير على مسار الأزمة الليبية. بيد أن المبالغة في رفع سقف التوقعات بخصوصه ليست في مكانها، لا سيما الاعتقاد بأن حكومة الوفاق قادرة قريباً وسريعاً على حسم المشهدين الميداني والسياسي لمصلحتها بالقياس على ما أنجزته مؤخراً.
فأولاً، وكما في الأزمات المشابهة، تبدو المواقف الدولية والإقليمية أكثر تأثيراً في المسار من الديناميات الداخلية المباشرة. ومن جهة أخرى ليس هناك معطيات يمكنها الجزم بالمآلات السياسية تحديداً.
ذلك أن تثبيت حكومة السراج نفسها وزيادة أوراق قوتها، بما يجعل إمكانية تهميشها أو استبعادها فضلاً عن القضاء عليها أمراً شبه مستحيل، قد – وينبغي أن – يساهم في تسهيل التوصل لحل سياسي قائم على قناعة حقيقية باستحالة الحسم العسكري، إلا أن ذلك ليس أمراً حتمياً.
قد تؤدي التطورات فعلاً إلى ترسيخ القناعة بحل سياسي وتسهيل سبل الوصول إليه، لكنها أيضاً قد تؤدي لتقسيم ليبيا على قاعدة الشرق والغرب، تقسيماً ضمنياً وبالامر الواقع إن لم يكن رسمياً ومعلناً، الآن أو لاحقاً، تقسيماً كاملاً لدويلات أو على شكل فيدرالية أو كونفيدرالية لاحقاً، بشكل شديد الشبه بالأزمة السورية وسيناريوهاتها المستقبلية المحتملة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس