هند فخري سعيد - خاص ترك برس
تثير فينا الذكرى المئوية لثورة العشرين أن نستقرئ ما كان يدور حول هذه الثورة التي انطلقت بأنفاس شعبية نقية رفضت أن تخنقها أيادي المحتل، والتي أحيطت بأحداث لم تكن ببعيدة عنها حاولت أن تسيسها لكنها رغم ما كان يعصف من حولها بقيت ثابتة على أهدافها محتضنة لأبنائها البسطاء الذين ضحوا في سبيل نجاحها.
أحداث سبقت الثورة وأخرى تزامنت وأخرى بعدها جاءت...
تسارعت الأحداث في بلاد المشرق العربي ما بين اندلاع الحرب العالمية الأولى ونهايتها وخروجها من دائرة الحكم العثماني لتدخل مرحلة الاستعمار والانتداب التي فرضت عليها من قبل الحلفاء (بريطانيا وفرنسا)، رغم الوعود التي منيت للعرب بعد ثورتهم الكبرى كمكافئ لدعمهم للحلفاء ضد الدولة العثمانية، وحتى التي نُفذ منها لم تطل فرحة الحصول عليه كثيرا إذ سرعان ما تلاشت حقيقته بعد اصطدامه بمواثيق الحلفاء الكبرى.
فكانت البداية مع حكومة دمشق التي أعلن عنها في 7 آذار/ مارس 1918 المتمخضة عن المؤتمر السوري وتنصيب الأمير فيصل ملكا على سوريا، وفي ذات اليوم تم الاتفاق على عقد مؤتمر عراقي يعلن فيه عن استقلال العراق وتنصيب الأمير عبد الله ملكا عليه للشروع في اتحاد فيدرالي بين العراق وسوريا. لكن سرعان ما صدم هذا القرار برد قاسي ومعادي من بريطانيا لأنه يخالف سياق سياستها في العراق ووعودها لحليفتها فرنسا في سوريا.
إلا أن حكومة فيصل ومنذ الإعلان عنها وحتى سقوطها قد قررت أن سياستها في سوريا لا تنفذ إلا إذا أخذت عمقها في الأراضي العراقية، فأخذت على عاتقها دعم نشاط الضباط العراقيين ودفعهم لتنسيق جهودهم داخل العراق مع زعماء العشائر وعلماء الدين رغم محاولاتها إخفاء هذا عن بريطانيا، كونها لا تزال بحاجة لدعمها. فسلكت سياسة فيها الكثير من الموازنة، في وقت شرع الضباط العراقيون بمهمتهم داخل الأراضي العراقية تحت مسمى (مشاكل الحدود) من دير الزور وتلعفر وإلى الموصل حتى تزامنت هذه التحركات مع انطلاقة شرارة الثورة في 30 حزيران/ يونيو 1920 فأُلهبت منطقة الفرات الأوسط برمتها، وتزامنت كل هذه الأحداث مع تقدم القوات الفرنسية داخل سوريا وإسقاطها حكومة دمشق.
ورغم أن بريطانيا أنهت الثورة العراقية عسكريا لكنها كانت متيقنة أنها لا زالت متقدة سياسيا، ولأجل فرض معادلة تحقق الهدوء في المنطقة وجدت الحل الأمثل في الإبقاء على فيصل حليف للبريطانيين، وكونه على علاقة جيدة مع القوميين العراقيين وأن تنصيبه ملكا على العراق يعوضه عرش الشام الضائع ويمتص نقمة الثائرين ويحقق الهدوء مع حليفتها فرنسا.
فكانت ثورة العشرين، ثورة سبقها عمل بخطوات راسخة من الضباط العراقيين بتنسيق ودعم من حكومة دمشق وليدفع بهم وبكل قوة دور العشائر العراقية وعلماء الدين الذين رفضوا الاحتلال البريطاني من أول تواجد له وتكبدت بريطانيا إثرها خسائر جمة لإخمادها، لتتيقن بضرورة إقامة حكم وطني يتجسد بنخبة رجال العراق وشخصية تحصل على قبول فئات المجتمع العراقي، فجاء اقتراح تشرشل وزير المستعمرات البريطانية في مؤتمر القاهرة في آذار 1921 (فيصل ملك العراق).
هذا التحليل المتواضع للظروف التي أحاطت بالثورة العراقية الكبرى لا يبعدنا عن حقيقة الثورة وجوهرها أنه ثورة الشعب العراقي بكل أطيافه بدماء العشائرالعراقية نقية الهدف ثابتة الوجهة، لم يدخل الصادقون منهم المؤمنون بغايتهم أروقة السياسة، ولم يسيروا الثورة لغير وجهتها الرافضة بصوتها العالي أي شكل من أشكال الاحتلال البريطاني، وحتى شخص الأمير فيصل ملك العراق لا يمكن أن نجزم ضلوعه في مخطط بريطاني وإن كان تدشينه ملكًا على العراق كان على لسان وزير المستعمرات تشرشل لأنه وهو في حكومة دمشق كان يسعى للملمة المُلك العربي الذي تبدد على طاولة الخداع البريطاني الفرنسي، وإن استمرار تعامله معهم كان من باب المطاولة لاسترداد ما سلب مدركًا أنه لا يقوى على الإشهار بالمواجهة وكشف المخطط الاستعماري الذي نسف كل الوعود البريطانية بإقامة الدولة العربية. والضباط العراقيون الذين وجدوا أنفسهم تائهين خارج دائرة الوطن وزاد في ضياعهم سقوط حكومة دمشق التي تشبثوا فيها كآخر كيان عربي يمثل وجودهم، بعدها لا شيء قد يعيد لأقدامهم الثبات سوى العودة لأرض الوطن والالتحام مع أبنائه الذين أطبق عليهم سقف الاحتلال.
ثورة العشرين ثورة عراقية كبرى يفخر بنتائجها الشعب العراقي وستبقى أنموذجًا لوحدته ودرسًا في نضاله لتحقيق أهدافه إذا ما خلُصت الجهود وثبتت القلوب على غاياتها النقية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس