د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
ملفات السياسة الخارجية التركية باتت في معظمها متشابكة متداخلة بالغة الحساسية والتعقيد مع دول الجوار العربي والإقليمي والمجموعة الأوروبية. لعبة التوازنات بين أميركا وروسيا لا تسير كما ينبغي أيضا. أكثر من محور اصطفاف متعدد الأطراف والمصالح يتشكل على حساب تركيا أو في مواجهتها لقطع الطريق على صعودها ونفوذها ومصالحها الإقليمية.
مقولة أن أنقرة وللخروج من مأزقها تسعى لتحييد مصر عبر ضرب التحالفات الإقليمية التي تشارك فيها ضدها لم تقنع الكثيرين. التغزل بالجيش المصري والإشادة باحترام القاهرة للمناطق البحرية التركية قابله مطلب مصر ترجمة الأقوال إلى أفعال وإعلان ولادة منظمة غاز شرق المتوسط بحضور 6 دول لم تكن تركيا بينها. ما الذي نوقش بعيدا عن الأضواء بين جهازي الاستخبارات في البلدين إذا؟ رئيس نادي الزمالك المصري لكرة القدم وللمرة الثانية خلال أقل من
عامين يهدد اللاعبين الراغبين بالتوجه إلى الأندية التركية الممتازة للعب هناك بأنه سيشهر بهم ويحولهم إلى خونة لأنهم ذهبوا "إلى دولة معادية". لم نسمع أحدا يقول لنا إن القضاء المصري أو رموز السياسة والرياضة والفن هناك توحدوا للرد عليه وتذكيره بأنه تجاوز حدوده.
أنقرة قالت إنها تريد أن تكون أمام الطاولة لأنها في الميدان ومن لا يقبل بذلك عليه أن يتحمل النتائج. قرار قبول التهدئة والاستعداد للحوار فسره البعض على أنه تحول وتراجع وانعطافة في المواقف التركية نتيجة الضغوطات الإقليمية لكن هناك تفسيرات مغايرة تماما تقول لو أن تركيا لم تصعد في الأسابيع الأخيرة على خط التذكير بقوتها العسكرية مع استعدادها للجلوس أمام أية طاولة تحمي مصالحها وحقوقها في المنطقة، لما استطاعت الرد على ما يحاك لها في القاعات الخلفية لبعض أجهزة الاستخبارات والمستشارين الأمنيين لرؤساء ومشايخ وأمراء وحدهم العداء لأنقرة.
الحوار التركي الفرنسي الأخير لن يكفي ووزير الخارجية الأميركي يزور قبرص اليونانية وأثينا وهو يعبر الأجواء التركية فهل سيهبط في أنقرة؟ موسكو جاهزة للتصعيد من أجل الحصول على ما تريده. المصالحة الإماراتية الإسرائيلية ليست عن عبث ورئيس الأركان الإماراتي لا يزور اليونان وقبرص اليونانية للسياحة. أبو ظبي تريد الرد على أن تركيا تفكر بإغلاق سفارتها في الإمارات وتعليق العلاقات الدبلوماسية بسبب اتفاقها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. الحبل على الجرار وتفاهمات مصالحة عربية أخرى ستظهر إلى العلن قريبا لأن بيان الجامعة العربية الأخير قال إن المواجهات بدأت ومحاولات جر لاعبين جدد إلى حلبة الصراع مع تركيا مثل العراق ولبنان والسودان وعمان تتطلب الاستعداد والجاهزية السياسية والعسكرية والاقتصادية.
بين الأهداف المعلنة فقط: إسقاط اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية، محاصرة تركيا في شرق المتوسط، إبعادها عن الشراكة في غاز المنطقة لفتح الطريق أمام مشروع "ميد إيست"، إضعافها في سوريا والعراق ولبنان، إنهاء حلم العضوية الأوروبية، إلزامها بإيران إقليميا وتركها في حالة الارتباك الدائم على خط موسكو – واشنطن.
العدالة والتنمية هو الأقوى حزبيا وسياسيا وشعبيا في تركيا وحلم توحيد المعارضة في الداخل ضده ليس فرصة اليوم. زعيم "حزب الشعب الجمهوري" كمال كيليشدار أوغلو أقوى أحزاب المعارضة منهمك بالدفاع عن حقوق رواد المقاهي الشعبية ومطالبة السلطات المعنية بتأمين دستات أوراق اللعب لهم لينسوا هموم فيروس كورونا.
الشعار الذي رفعه أحمد داود أوغلو "خوجا" الدبلوماسية التركية لسنوات طويلة كان تصفير المشكلات في السياسة الخارجية التركية. أنقرة نجحت في ذلك لسنوات مع انطلاقة وتمدد هيئات تيكا ويونس أمره وموسياد ومؤسسات الدعم والإغاثة والهلال الأحمر التركي. الأمور تعقدت في الأعوام الأخيرة فقررت القيادة
السياسية اختبار دبلوماسية "العزلة الثمينة" وطروحات "الرد الاستباقي" والانتقال من الدفاع إلى الهجوم نتيجة ضرورات المرحلة وحيث تَعتبر أنّ أمن تركيا القومي بات مهدّداً وهو تحرّك فرضته الأجواء والتطورات الأمنية والسياسية المحيطة بها. هي تتحدث اليوم عن "دبلوماسية الاستكشاف" لمراجعة علاقاتها مع العديد من العواصم ولتكون مقدمة لشيء ما.
القيادة السياسية التركية تدرك تماما أن مصالح العديد من العواصم والقوى السياسية والشعبية في المنطقة باتت متداخلة مع مصالحها وأمنها وأن ما تقرره لن يعنيها وحدها بعد الآن ولا بد أن يكون له ارتداداته على حلفائها وشركائها. اقتراحنا في هذه المرحلة هو أن تكون الأولوية لخطة "تصغير المشكلات" وتقليص عددها بعد تراجع خطط تصفيرها. آليات الدبلوماسية التركية التي شيدت في العقدين الأخيرين قادرة على إدارة الملفات والخيارات مهما كانت الظروف والمعطيات فهي بين الأقوى إقليميا ودوليا وما زالت ناشطة وجاهزة للدفاع عن مصالح تركيا في الخارج رسميا وإنسانيا وخدماتيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس