"القسطنطينية"، لوحة للفنان الفرنسي "جوزيف ميري" تعود لعام 1855، ضمن ألبوم أعماله، باريس، فرنسا
كريم عبد المجيد - أرشيف الدولة العثمانية
"القُسطنطينية"، ذلك الاسم الذي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الحضاري للمدن الإمبراطورية، تلك المدينة التي مرت عليها دول وحضارات قامت واندثرت، علت واختفت، وقفت منها موقف الراصد الشامخ الذي لا يموت بمرور قرون وآلاف السنوات، وإن كان يقوى أحيانًا ويشيخ أحيانًا.
أكثر من 1100 عام تفصل بين إعلان اسم مدينة الإمبراطور "قسطنطين" "القسطنطينية" كمركز من مراكز "المسيحية" في العالم، وتحولها إلى "إسلامبول" مدينة "مُحمد الفاتح" مركز من مراكز "الإسلام" في العالم. بمرور هذه القرون الكثيرة لنا أن نتساءل كيف كان شكل مدينة "قسطنطين" عندما تسلمها "الفاتح" بعد معركة الفتح الخالدة؟
"عندما دخل السلطان "مُحمد" القُسطنطينية لم تكن إلا خرائب أو أحسن حالًا منها قليلًا" – برنارد لويس، إسطنبول وحضارة الإمبراطورية العثمانية
بهذه الكلمات يصف المؤرخ الإنگليزي الشهير حال المدينة وقت استلام الفاتح لها، الحال الذي سيتغير بشكل كامل في عقود وقرون الحكم العثماني التالية، لتصبح واحدة من أجمل وأرقى مدن العالم كله، فنحاول إعطاء لمحات بسيطة عن هذا التطور لشكل المدينة في فترة قرنين من الزمان منذ منتصف القرن الخامس عشر وقت دخول المدينة وحتى ثلاثينات القرن السابع عشر.
منذ أن وطئت قدم الفاتح عاصمته الجديدة، عمل على تحويلها إلى مدينة عالمية، فقد أمر بفتح باب الهجرة لملئها بالسكان بسبب ضعف الأعداد التي تعيش فيها، فكل من كان يأتي للمدينة كان يحق له امتلاك منزل خاص به وبستان كعامل من عوامل جذب البشر لتعمير المدينة، كما عمل على جلب العائلات الغنية من البلقان وشبه جزيرة الأناضول لإسكانهم في العاصمة الجديدة لتعميرها، ولم يشترط أن تكون العائلات مسلمة، وقد تمكن هؤلاء القادمون إلى المدينة من إنشاء بيوت وكنائس خاصة بهم، وقد أعفتهم الدولة من بعض الضرائب ومقابل بعض الخدمات شرط ألا يغادروا المدينة.
اتبع الفاتح سياسات الإسلام في إطلاق حرية المعتقد والعبادة لكل من يسكن المدينة، فعين زعماء لطوائف غير المسلمين المختلفة، فقد اعترف بالروم الأرثوذكس وعين زعيمًا لهم هو المسؤول عن كل طائفته في الدولة وهو البطريرك "جناديوس الثاني"، كما قام بتعيين زعيم روحي للأرمن، وهو البطريرك "هوفاكيم الأول" الذي استدعاه من بورصة إلى إسطنبول عام 1461، وأسند إليه رئاسة وتمثيل جميع الأرمن الذين يعيشون بالدولة، كما عينه بطريركًا لكنيسة أعطاها له كهدية بمقاطعة صامتيا بالمدينة.
عملت الدولة كذلك على تشجيع اليهود الفارين من البطش الأوروپي في أن يستقروا في المدينة خلال عهد الفاتح، وفي عام 1477 أصبحوا يحتلون المرتبة الثالثة في المدينة من حيث الكثافة السكانية بعد المسلمين.
قام السلطان كذلك بإقامة أول مسجد جامع كبير بالمدينة وهو "جامع الفاتح"، ومستشفى، ومجموعة من المدارس المعروفة باسم مدارس صحن الثمان (وهي ثمان كنائس حولها الفاتح إلى مدارس) وكانت تُدرَّس فيها علوم العقائد والفقه والطب وغيرها، وبجانبها مبان أخرى لإقامة الطلاب.
أما بالنسبة لسياسات تعمير المدينة، فقد وفر إنشاء "العمارة" İmaret خدمات عامة وأسواقًا للمدينة، ولعبت دورًا هامًا في توسيع حجم المدينة. والعمارة هي مؤسسة وقفية تضم عدة منشآت بجانب بعضها (جامع، مستشفى، استراحة للضيوف، أسبلة، جسور) أسست بدافع من عمل الخير، ومنشآت أخرى تدر الدخل على هذه المؤسسات الخدمية (حمام، سوق، خان، مطحنة)، وكانت هذه العمارات تعطي الشكل المميز للمدينة العثمانية في كل أنحاء الدولة.
وفي عام 1459 جمع الفاتح رجال الدولة وطلب من كل واحد منهم أن يبني "عمارة" في المكان الذي يرغبه، وقد تنافس رجال الدولة في بناء العمارات البديعة حول الجوامع التي وفرت للسكان الخدمات التي يحتاجونها، مما جعلها تستقطب مجموعات جديدة من البشر من كل البقاع التي حولها، ليؤسسون أعداد جديدة من المتاجر والمحلات، مما عمل على زيادة رقعة ومساحة المدينة بشكل كبير وضخم.
ويعتبر "السوق المسقوف الكبير" Grand Bazaar بإسطنبول أحد أعمال الفاتح التجارية الهامة التي ما زالت قائمة إلى الآن، والتي تدخل في سياسات تعمير المدينة التي انتهجها، فقد قام ببنائه بمعدل 800 متجر بداخله، وصلوا إلى 3000 متجر بداية القرن الـ 18، وارتفعوا إلى 4000 بنهاية القرن الـ 19. وقد احتوى البازار على مسجد خاص به، أسبلة، حمام عام، مدرسة، مقاهي، ويستطيع الزائر التجول بداخل 61 حارة بداخله، والدخول إليها عبر 18 بوابة.
الحديث عن نوع آخر من العمارة التي برزت في إسطنبول والدولة العثمانية يأتي بالحديث عن "الكُلية". وهي نوع برز بشكل واضح في العهد العثماني، وكان يتكون من جامع يحيطه مدرسة، ومشفى، وتكية لإطعام الفقراء، كما كان يضاف إليه حمام. وقد مثلت "كُلية السليمانية" ثاني أكبر مشروع للمهندس الكبير "سنان" والذي استغرق بناءها من 1550 حتى 1570 بالعاصمة إسطنبول قمة هذا النوع من العمارة التي يتوسطها جامع "سليمان القانوني" المعروف باسم جامع "السُليمانية"، فقد ضم بجانبه أنواع من المدارس منها مدرسة للحديث النبوي، ومدرسة للطب، كما ضم مشفى، ومطعم، وصيدلية، وأربعة مدارس أخرى.
"كُلية السلطان بايزيد الثاني" بمدينة إدرنة، وهي جامع يحيطه مشفى ودار لتعليم الطب تم الانتهاء منه عام 1488، وهو حاليًا متحف
وإذا انتقلنا من عصر الفاتح وعصر القانوني إلى عصر السلطان مراد الرابع في القرن السابع عشر، سنجد أن المدينة قد تطورت وزيدت مساحتها وكبرت بشكل ضخم وعظيم، ففي عام 1638 أصدر السلطان أوامره إلى الصدر الأعظم "بيرم پاشا"، وإلى المفتي "يحيى أفندي"، وإلى قضاة "إسطنبول"، "اسكُدار"، "أيوب"، و"گلاطة" بإعداد وصف شامل للمدينة يضم كل شيء فيها، فجاء وصفًا شاملًا كاملًا أُعد في ثلاثة أشهر، وشكّل كتابًا جامعًا بعنوان "وصف القسطنطينية" قرأه المؤرخ العثماني الشهير "صولاق زاده" ليل نهار في حضرة السلطان وهو يهتف "يا إلهي، ارع هذه المدينة إلى الأبد".
ضم هذا الكتاب أرقام كثيرة جدًا لأعداد كبيرة من المؤسسات والنقابات والمباني والأفراد في مئات الصفحات، نذكر منها مثلًا: عدد 670 محكمة في قضاء "قسطنطينية"، "اسكُدار"، "أيوب"، و"گلاطة"، وعدد 74 جامعًا كبيرًا من جوامع السلاطين، 1,985 جامع كبير للوزراء، 6,990 جامع في أرباع المدينة، 6,665 مسجد صغير وكبير، 19 مطعمًا لإطعام الفقراء، 9 مستشفيات، 1,993 مدرسة ابتدائية، 55 مدرسة لتحفيظ القرآن، 135 لدور الحديث النبوي، 557 زاوية وتكية، 91 دور لمرضى الغرباء، 997 فندق، 565 فندق للتجار، 990 حي للمسلمين، 27 حي للأرمن، 657 حي لليهود، 14,536 حمامات عامة وخاصة، 6,890 قصر للوزراء والأعيان، 200 مؤسسة لتوزيع المياه، 37 مطحنة كبرى، 55 صهريج، 600 فرن، 70 دور للصباغة، 4 سجون، 12 مدبغة للجلود، عدد 1 لكل من: "معمل حرير"، "معمل شمع"، "معمل أسلاك ذهبية"، "مصنع للبارود"، "دار ضرب العملة"، "مصنع للبنادق"، "مخزن للرصاص"، "دار الموسيقى"، "دار الرسامين"، "دار لرجال المدفعية"، "دار لصانعي الزجاج"، "دار الفواكه الحمضية"، "دار الخيامين"، "دار السقائين".
هذه اللمحة الموجزة عن تطور هذه المدينة العريقة، لابد وأن يُذكرنا بهذا الفتح الخالد، والنصر العظيم الذي حمل لواءه "مُحمد بن مراد" المعروف باسم "مُحمد الفاتح" القائد العَلم المُجاهد، حفيد "عُثمان" مؤسس هذه الدولة الإسلامية العظيمة، وحفيد مُحمد (صلى الله عليه وسلم) رسول رب العالمين، فرحِمهُ الله رَحمة واسعة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس