سعيد الحاج - الجزيرة
مع اقتراب موعد الانتخابات التركية المصيرية، لا شيء ينافس سؤال النتائج المتوقعة، لا سيما مع الحديث عن منافسة شديدة وفرص متقاربة، وهو ما يحيل لأهمية البحث في العوامل المؤثرة في توجهات تصويت الناخبين على بعد زهاء 3 أسابيع من يوم الاقتراع.
التحالفات
رغم تزامن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا وإجرائهما في اليوم ذاته، فإن كل واحدة منهما تخضع لمعادلات وديناميات مختلفة، لكنها رغم ذلك ليست مستقلة، إذ ثمة ارتباط وثيق بينهما. فالمرشحون الأربعة للانتخابات الرئاسية هم انعكاس بشكل أو بآخر لمنظومة التحالفات التي قامت بين الأحزاب السياسية وصاغت معادلات الانتخابات البرلمانية.
فالرئيس أردوغان هو مرشح "تحالف الجمهور" الحاكم، وكمال كليجدارأوغلو مرشح "تحالف الشعب/ الأمة" المعارض، وسنان أوغان مرشح "تحالف أتا" اليميني، بينما محرم إينجة هو مرشح حزبه البلد، وهو أبرز الأحزاب التي بقيت خارج التحالفات الرئيسة.
وقد انعكست منظومة التحالفات على فلسفة إعداد قوائم المرشحين للانتخابات البرلمانية، إذ فضّلت التحالفات المعارضة تقديم قوائم مشتركة قدر الإمكان لتجميع الأصوات ومنع تشتتها، ومن ثم للحصول على أكبر عدد ممكن من النواب في البرلمان القادم، بينما كان تحالف الجمهور الحاكم استثناءً في هذا الإطار.
ولذلك، فإن فرص المرشحين للانتخابات الرئاسية ستتأثر بشكل مباشر بأوزان التحالفات في معادلة البرلمان، ولكنها لن تكون متطابقة. إذ يبقى تفصيلان مهمان؛ الأول أن هناك أحزابًا بقيت خارج التحالفات ولكن دعمت أحد المرشحين بشكل رسمي وعلني، وبعضها الآخر -وإن لم يعلن انحيازًا ما- فإن أصوات أنصاره ستكون حاضرة. والتفصيل الثاني هو أن القوائم المشتركة والتحالفات لا تعني بالضرورة جمع كل أصوات القواعد التصويتية لأحزاب التحالف لمرشح الأخير، بل تبقى هناك حسابات وتجاذبات وتفاعلات مختلفة مرتبطة بالقوائم والأحزاب والدوائر الانتخابية والتركيبة السكانية وخريطتها السياسية والأيديولوجية.. إلخ، كما أسلفنا في مقال سابق.
وفي ظل كل ما سبق، يبقى السؤال حاضرًا والتساؤل وجيهًا حول فرص المرشحين الرئاسيين، ولا سيما كل من أردوغان وكليجدار أوغلو، في الفوز بالرئاسة، وهل من الجولة الأولى أم الثانية، وكذلك فرص التحالفات -ولا سيما التحالفَيْن الرئيسين- في الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان المقبل.
تظهر استطلاعات الرأي المجراة حتى لحظة كتابة هذه السطور تباينًا في التوقعات، ومن ثم لا يمكنها الجزم بهوية الفائز وحظوظه بشكل دقيق. وعلاوة على أنها أجريت في وقت مبكر نسبيًا، من باب أن الحملة الانتخابية الرئيسة لم تبدأ بزخمها بعد، إلا أن استطلاعات الرأي في تركيا تشوبها كثير من الثغرات من العلاقات مع الأحزاب السياسية، لضعف الأداء المهني، ولعدم شفافية الشارع دائمًا تجاه الاستطلاعات. وهو ما يدفع لفكرة الاستئناس بالسياقات العامة لهذه الاستطلاعات أكثر من الوثوق بنتائجها التفصيلية، وقد أظهرت كل المنافسات الانتخابية السابقة صحة هذا التقدير. وعليه، تصبح دراسة العوامل المؤثرة في تصويت الناخبين ذات أهمية كبيرة في سياق التقدير والتوقعات.
العوامل المؤثرة
لا شك أن الأيديولوجيا أحد أهم العوامل المؤثرة في تصويت الناخبين، ونقصد هنا الأيديولوجيا الحقيقية والمتخيلة والانتماءات الحزبية والاصطفافات السياسية والميول الفكرية وغيرها، وقد كانت دائمًا مهمة -وربما الأهم- في معادلة الانتخابات.
لكنها بالتأكيد ليست الوحيدة، وربما ليست الأهم في سياق الانتخابات المقبلة. ذلك أنه عدا عن أن الأيديولوجيا ليست الدافع الوحيد للتصويت لدى جميع الناخبين تقليديًا، فقد حضرت في الانتخابات الحالية عوامل أخرى بشكل ملحوظ ولا سيما في الشهور الأخيرة، مثل الزلزال والوضع الاقتصادي. الأهم من ذلك أن الاستقطاب الرئيس في المشهد السياسي الحالي ليس أيديولوجيًا، فالتحالفات المعارِضة من مختلف المشارب اليمينية واليسارية وتحالف الأمة تحديدًا يضم 6 أحزاب من خلفيات فكرية وأيديولوجية متباينة.
الاقتصاد عامل مهم في أي انتخابات، وهو في تركيا حاضر وبقوة ولا سيما مع الأوضاع الاقتصادية في السنتين الأخيرتين. وهو من جهة بصمة العدالة والتنمية الأهم في سنواته الأولى تحديدًا، وهو إلى ذلك انتقاد المعارضة الأبرز للحكومة مؤخرًا، ولذلك من المتوقع أن يكون له أثر كبير في توجهات التصويت، لا سيما أن الأمر له انعكاساته على حياة المواطن اليومية من حيث التضخم وغلاء الأسعار.
ولذلك، فقد عمدت الحكومة في الشهور الماضية إلى ما يسمى "اقتصاد الانتخابات"، أي زيادة الإنفاق الحكومي وتقليل الجباية كرفع الحد الأدنى للأجور ورواتب الموظفين والمتقاعدين وتسهيل القروض وجدولة الديون ودعم بعض الشرائح.. إلخ. وكما هو واضح فالهدف الرئيس من ذلك تخفيف الضغوط على المواطنين وخفض تأثير الاقتصاد على التصويت، وقد أفاد ذلك أردوغان والعدالة والتنمية في الأشهر الماضية، خصوصًا أن المعارضة لم تطرح سياسة اقتصادية بديلة تفصيلية وقادرة على إقناع الجميع.
بالمثل، كان ملف اللاجئين والأجانب في تركيا، ولا سيما السوريين منهم، ورقة قوة بيد المعارضة ضد الحكومة، لكن الأخيرة عمدت مؤخرًا إلى تقنين وتحديد وجود الأجانب على أراضيها، ولا سيما في المدن الكبرى وبعض أحيائها، مما قلل من ثقل الملف في أجندة الانتخابات قليلًا وتراجعه في التداول الإعلامي.
مع الأيام الأولى للزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي البلاد، كانت التوقعات تشير لفاتورة كبيرة قد يدفعها حزب العدالة والتنمية من باب أنه يحكم البلاد منذ 21 عامًا، ومن ثم لديه مسؤولية عن التعامل مع الحدث قبل حصوله وبعده. لكن الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك أظهرت نجاحًا نسبيًا للرئيس التركي في نقل النقاش من "من المسؤول" عما حدث إلى "من القادر" على إعادة الإعمار وإحياء المناطق المنكوبة، مقدمًا نفسه وحكومته بوصفهم طرفًا قادرًا على ذلك ومجرَّبًا في هذا الإطار في زلازل سابقة، مع تأكيد وعده بتسليم المنازل الجديدة خلال عام، بل وتسليم بعضها قبل موعد الانتخابات.
وأخيرًا، قوائم المرشحين التي قدمتها الأحزاب والتحالفات للهيئة العليا للانتخابات لها تأثير مهم وأكبر مما كان لها في استحقاقات سابقة، وهو ما يفسر الاهتمام الكبير بها، حيث قدمت الأحزاب شخصيات قوية ومعروفة في العموم. منطق التحالفات ووفق قانون الانتخاب المعدل يفرض على التحالفات تقديم قوائم مشتركة، وهذا ما فعله تحالف الشعب/ الأمة مثلًا، ولذلك يتوقع أن يفيده ذلك في الحصول على النسبة الأعلى الممكنة من أصوات الأحزاب التي تتضمن القوائم مرشحين عنها. في المقابل، قدمت أحزاب التحالف الحاكم قوائم مستقلة في العموم، وهو ما يفتح الباب أمام تشتيت الأصوات، وبالتالي خسارة بعض المقاعد للمعارضة، وحتى للمنافسة البينية داخل التحالف نفسه.
لكن، في المقابل، أدى تقديم الأحزاب المحافظة -"السعادة" و"المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم"- مرشحيها على قوائم الشعب الجمهوري وعدم خوضها الانتخابات بأسمائها وشعاراتها لخسارتها أصواتًا محتملة كانت تبحث عن بديل "مقبول" للعدالة والتنمية، ولا سيما من شريحة المحافظين. ولذلك فقد ارتفعت حظوظ العدالة والتنمية بشكل يمكن رصده في الأيام التي تلت إعلان القوائم وحتى الآن.
في الخلاصة، كل ما سبق من عوامل يقف نظريًا ومبدئيًا مع المعارضة ضد أردوغان والعدالة والتنمية، إلا أن الإجراءات الحكومية من جهة وبعض القرارات من جهة ثانية قللت من أثر هذه العوامل إلى حد كبير. والنتيجة أنه ليست هناك توقعات منذ الآن بفوز مريح وبفارق كبير لأحد الطرفين، ما يولي أهمية إضافية للحملة الانتخابية ويمنحها قدرة أكبر على التأثير على النتائج، لا سيما أن المستهدف منها في المقام الأول شريحة المترددين التي تقدر حاليًا بزهاء 10% من الناخبين.
وفي ظل تقارب الحظوظ بين المتنافسين، لا يمكن الاستهانة بنسبة 10%، بل لعلها قادرة على حسم النتيجة لصالح من يدير الحملة الانتخابية بشكل أفضل من خطابة ومهارات تواصل وحسن إدارة للحضور الإعلامي واستثمار أخطاء الخصوم، وهي أمور يمتلك الرئيس التركي عادة تفوقًا نسبيًا وخبرة بخصوصها.
وفي غياب أي مفاجآت غير محسوبة، يعزز كل ما سبق توقعاتنا السابقة بألا يحصل أي من الجانبين -تحالف الجمهور والمعارضة بما فيها تحالف الشعب والشعوب الديمقراطي وغيرهما- على أغلبية ساحقة في البرلمان، وألا تُحسم الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى بما يُحيج لجولة إعادة يغلب على ظننا -وفق المعطيات- أن يكون أردوغان هو الفائز بها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس