د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
سجلت انتخابات الرئاسة التركية في جولتها الأولى في 14 مايو/أيار 2023 مشاركة من أكبر نسب الحضور في العالم، حيث حضر الاقتراع نحو 89% ممن لهم حق التصويت، وأُجريت قبلها بأيام انتخابات الخارج في أكثر من سبعين دولة، وتم الفرز النهائي ليحصل الرئيس أردوغان على 27 مليونًا و133 ألفًا و837 صوتًا بنسبة 49.52% من الأصوات، ومرشح تحالف الشعب كمال كليجدار أوغلو على 24 مليونًا و594 ألفًا و932 صوتًا بنسبة 44.88%، مما يعني أن أيًّا من المرشحين لم يحصل على “نسبة 50%+ صوت واحد”، ليؤجَّل الحسم إلى جولة الإعادة في 28 مايو الجاري، وكان الرئيس أردوغان يحتاج إلى نصف في المئة فقط ليفوز بالدورة القادمة من الجولة الأولى، وقد وقف كثيرون عند هذه النتيجة التي حبس العالم كله أنفاسه، وهو يتابع صعودها وتوقفها وتأثرها بالصوت الواحد، ولكن ثمة نتائج أخرى، واكبت هذه النتيجة وظهرت معها، من أهمها:
أولًا: ترسيخ حرية الاختيار، والتداول السلمي للسلطة، وأن الوصول إلى الحكم طريقه صندوق الاقتراع وليس صندوق الذخيرة، وكلمة الفصل في ذلك للشعب فهو من يقرر من سيحكمه ويخدمه.
ثانيًا: حصول تحالف الجمهور بقيادة الرئيس أردوغان على أغلبية مريحة من مقاعد البرلمان، وخالف حزب العدالة والتنمية أغلب التوقعات التي ذهبت إلى أنه ربما يفقد الصدارة التي تعود عليها، فجاءت النتيجة لتؤكد الصدارة بجدارة، وتقضي على آمال حلف المعارضة في العودة إلى النظام البرلماني، وهو عمود الخيمة الذي قامت عليه فكرة الطاولة السداسية، وتبخرت معها أحلام ميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد في رئاسة الحكومة البرلمانية، وبذلك حسم الناخب التركي ملف سلطة البرلمان في الرقابة والتشريع لصالح أردوغان وحلفائه.
ثالثًا: نجح تحالف الجمهور في الحصول على الأغلبية بـ321 مقعدًا بما يجعل نسبته 60% من المقاعد، بينما حصل تحالف المعارضة على 231 مقعدًا، فيها شركاء متشاكسون لا تجمعهم وجهة ولا هدف، إلا محاولة إسقاط الرئيس أردوغان وطمس إنجازاته!
رابعًا: من خلال تحالف المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري ورئيسه كمال كليجدار أوغلو وريث الكمالية وحارس توحش العلمانية، حصل حزب الديمقراطية والتقدم الذي يرأسه علي باباجان على 14 مقعدًا، في حين حصل حزب المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو على 11 مقعدًا، كما حصل حزب السعادة الإسلامي بقيادة تيميل كارامولا أوغلو على 10 مقاعد، وبذلك تكون الأحزاب “الإسلامية” الثلاثة قد حصلت على 35 مقعدًا، ما كانت لتصل إليها إلا بوجودها على قائمة التحالف، وأصوات حزب الشعب الجمهوري، والدليل أن حزب السعادة أقدم الأحزاب الثلاثة فشل قبل ذلك في دخول البرلمان، وتخطي العتبة الانتخابية، ولا أظن أن تصوت هذه الكتلة داخل البرلمان ضد هويتها الدينية ومرجعيتها الإسلامية، في حالة طرح ما يتعلق بذلك في البرلمان، ثم إن تفكك التحالفات غير المنسجمة فكريًّا هو مآل الطاولة السداسية وأمثالها، كما أن القاعدة الشعبية لهذه الأحزاب ربما اضطرت إلى التصويت لكليجدار أوغلو في الجولة الأولى، نظرًا لاقتران البرلمان مع الرئاسة في وقت واحد، أما الآن فهم أمام التصويت لمشروعين وليس لشخصين، حسب تصريحات كليجدار أوغلو نفسه، وليس في كمال ومشروعه ما يقنعهم بالتصويت له.
خامسًا: ظهر الرئيس أردوغان وأعضاء حزبه فخورين بما حققوه من إنجاز، ومستبشرين بتحقيق النصر وتمام الفوز، بينما ظهرت خيبة الأمل “راكبة جمل” على معسكر المعارضة، الذي صدّق استطلاعات الرأي الموجَّهة، بأن مرشحهم سينجح من الجولة الأولى، فإذا بأردوغان يتفوق عليهم بأكثر من مليوني صوت، وظهر بسرعة الفتور عليهم، والتلاوم بينهم، حتى إن مساعد كليجدار أوغلو استقال صبيحة إعلان النتيجة.
سادسًا: نجح تحالف الجمهور بقيادة أردوغان في ضم حزب الرفاه الجديد بقيادة فاتح أربكان نجل الزعيم المؤسس نجم الدين أربكان، وحصل الحزب على خمسة مقاعد من خلال أكثر من مليون ونصف مليون صوت.
وهذه الخطوة تردم هوة طالما حاول خصوم أردوغان تعميقها من خلال إبرازه في صورة المنشق على أستاذه، وكأنه يقول لهم الآن: العبرة بالأفعال، وأنا أولى بأربكان منكم، ومن أراد طريقته ومنهجه، فليدعم حزبه وولده.
سابعًا: فاز ضمن تحالف الجمهور حزب “هدى بار” بأربعة مقاعد فيهم رئيس الحزب، وهو يُمثل التيار الإسلامي في المحافظات الكردية مثل ديار بكر وباطمان وغيرهما، وبذلك رسّخ أردوغان التجانس التركي بعيدًا عن البعد العرقي، وحافظ على المكون الإسلامي، في مقابل حزب العمال الكردستاني، صاحب التاريخ الإجرامي.
ثامنًا: حزب الرفاه الجديد وحزب هدى بار يُمثلان نموذج التيار المحافظ على المرجعية الإسلامية، ولا يقبلان المهادنة في القضايا الجوهرية مثل المثلية الجنسية، وبذلك يضمن حزب العدالة والتنمية حائط الصد الذي يقف في مواجهة كل من يتعرض لهوية المجتمع التركي وتقاليده الأصيلة.
تاسعًا: نجح أردوغان في كبح جماح الصحافة الغربية، التي تخلت عن المهنية وانضمت إلى المعارضة بصورة سافرة، وتدخلت في الشأن التركي بطريقة فجة، وقدمت أردوغان في صورة المستبد الذي لا يسمح بالمنافسة، فأظهرت النتيجة أنه ذهب إلى جولة إعادة بنسبة أصوات تساوي عدد سكان شارع واحد من شوارع المدن الكبرى، والحقيقة أن بعضهم تراجع، والبعض الآخر طالب بتوطين النفس على التعامل مع أردوغان لفترة رئاسية جديدة.
وعلى ذكر الرئاسة القادمة، تخاذل بعض أنصار أردوغان عن التصويت في الجولة الأولى ثقة في نجاحه، وعدم مبالاة بقيمة الصوت، وقد ردت النتيجة على ذلك، وإن صوتًا واحدًا في الإعادة قد يكون هو الفارق، فليكن صوتك أنت.
أما بعض المسلمين المختلفين مع أردوغان، فقد لبَّس عليهم إبليس ووقعوا في حبائل الشيطان، إذ طالبوا بالمقاطعة، وكأن عدم التصويت سيأتيهم بعمر بن العزيز الخليفة العادل!
إن هذه الدعوة خبيثة من وجه، وعمياء من وجه آخر، وتدل على عمى في السياسة، وعشى في الفهم والكياسة، فإن المقاطعة تصب في مصلحة المنافس، الذي لا تجمعهم به مسألة مشتركة واحدة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وأدركوا اللحظة الفارقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس