عبد الناصر سلامة - الجزيرة نت
بالتأكيد تختلف القراءة العربية لنتيجة الانتخابات التركية عن غيرها من القراءات، وإلا لما شهدت بعض العواصم العربية احتفالات شعبية صاخبة بإعادة انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان، في الوقت الذي التزمت فيه العواصم الغربية، والأمريكية بالطبع، الصمت شعبيًّا ورسميًّا، وهو ما يجعل من التجربة الديمقراطية في تركيا أمرًا على قدر كبير من الأهمية للجانبين العربي والغربي في آن واحد لأسباب عديدة، حتى وإن تباينت الأسباب بينهما.
أول هذه القراءات، هو أن تلك الانتخابات تضع أنظمة الجمهوريات العربية في موقف لا تحسد عليه، ذلك أن الشعوب في مجموعها أصبحت في حالة تأثر شديدة بهذه التجربة الملهمة، على اعتبار أن الدولة التركية هي الأقرب جغرافيًّا ونفسيًّا للمواطن العربي، الذي يجد حساسية من نوع ما في التفاعل مع أنظمة وتجارب الغرب لأسباب مختلفة، وهو ما جعل من شخص الرئيس التركي نموذجًا للقيادة، بل والزعامة، التي يبحث عنها الشارع العربي طوال الوقت، ليس في مجريات الحاضر فقط، وإنما في كتب التاريخ وسِيَر الزعماء السابقين والقادة التاريخيين عربيًّا وإسلاميًّا.
بالفعل أصبحت التجربة التركية تنمويًّا وسياسيًّا وقياديًّا مصدر إلهام للنسبة الكبرى من شعوب المنطقة، إذا استثنينا أصحاب الأيديولوجيات النشاز سياسيًّا وأخلاقيًّا، وبذلك تصبح نسب الفوز مستقبلًا في أي من دول المنطقة بـ99% وما شابه ذلك، في الانتخابات والاستفتاءات، مثارًا للسخرية والتندر، سواء على المستوى الرئاسي أو البرلماني، أو حتى الانتخابات المحلية، وهو ما يوجب على مثل هذه الأنظمة إعادة النظر في ذلك السلوك الذي لم يعد مقبولًا بأي حال، ولن يكون مقبولًا أبدًا في المستقبل، بل سوف يجد مواجهات صاخبة.
الأمر الآخر الذي يعني المواطن العربي، هو أن هذه الانتخابات بعثت برسائل متعددة إلى الآخرين، وبشكل خاص دول الغرب، أهمها أن الإسلام ليس أبدًا نقيضًا للديمقراطية، وأن المسلمين ليسوا أبدًا أعداءً للحرية، وأن ما هُم فيه من استبداد وبلاء سياسي إنما هو نتاج الاستعمار والاحتلال الذي ظل جاثمًا عقودًا عديدة على الحياة العامة كلها، وأنه ليس صحيحًا أن الغرب، كما يتشدق دائمًا، ينشد الحرية والتطور لدول العالم النامي، حتى بعد زوال الاحتلال هنا وهناك، وإلا لما وجدت الأنظمة الدكتاتورية كل هذا الدعم الغربي طوال الوقت.
على العكس تمامًا، فقد بعثت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات (نحو 90% في الجولة الأولى، ونحو 85% في الجولة الثانية) رسالة مهمة إلى الجميع، وهي أن المسيرة الديمقراطية، التركية الإسلامية، تفوقت على نظيرتها الغربية الأمريكية من حيث ارتفاع نسبة الوعي السياسي لدى جموع الشعب التركي عن نظيره لدى تلك الشعوب، التي لم تصل في معظم الأحوال إلى هذا الحد، الذي أصبح معه المواطن يعي أهمية مشاركته، بل أهمية صوته، وهو ما أكدته النتائج النهائية بالفعل في هذه الجولة وتلك.
القراءة العربية المهمة أيضًا، هي أن رئيس الدولة -أي دولة- يستطيع أن يستمر في الحكم سنوات طويلة، وفترات رئاسية متعددة عن طيب خاطر وبدعم شعبي، ما دام يستطيع الإنجاز بالفعل، وما دام يحقق نجاحات على كل المستويات، ذلك أن الرئيس أردوغان اعتلى سدة الحكم منذ عام 2014، وها هو مستمر إلى 2028 (14 عامًا متواصلة)، فضلًا عن أحد عشر عامًا قضاها قبل ذلك في رئاسة الوزراء (من 2003 حتى 2014)، وهي فترات في حد ذاتها كانت كفيلة بخلق حالة من الرفض الشعبي العام بحثًا عن التغيير أو عن الأفضل على أقل تقدير، إلا أن استعادة الدولة التركية لدورها وريادتها بين الأمم، كان في حد ذاته سببًا كافيًا لاستمراره، فضلًا عن العديد من الأسباب الأخرى.
وقد بدا واضحًا أيضًا بما لا يدع مجالًا للشك، أنه بجانب أن المواطن العربي يبحث عن قائد، فإنه يتطلع كذلك إلى الحرية والديمقراطية، وأن لا يتطلع إلى الحياة الكريمة فقط، بل إلى العزة والكرامة واستعادة الماضي التليد، وهو ما وجده في شخصية أردوغان، التي استرعت أيضًا انتباه العديد من قادة العالم، الذين تحدثوا عنه باستفاضة، وكان في مقدمتهم رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون الذين تعاملوا معه، باراك أوباما، ودونالد ترامب، وجو بايدن، وغيرهم من القادة الغربيين بشكل خاص.
أعتقد أن موقف أردوغان فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي، وتحديدًا فيما يتعلق بموقفه من اللاجئين السوريين وغيرهم على الأراضي التركية، وفيما يتعلق بموقفه من المثليين ودفاعه عن الأسرة والدين في هذا الصدد، هو رسالة أيضًا إلى العالم العربي، شعوبًا وحكومات، تؤكد أن الثوابت لا يجوز التفريط فيها أيًّا كانت الضغوط الخارجية، أو حتى الداخلية، وهي الضغوط التي تعرض لها أردوغان على امتداد حملته الانتخابية، على المستويات السياسية والإعلامية، ومن منظمات أجنبية ومحلية، إلا أن صموده كان نموذجًا يحتذى.
على أي حال، الشعب التركي سطّر رسائل عديدة للتاريخ وللجغرافيا في آن واحد من خلال هذه الانتخابات، إلا أن الجغرافيا العربية كانت الأكثر احتياجًا والأكثر تأثرًا، وبالتأكيد فإن مجريات الأحداث السياسية مستقبلًا في الساحة العربية، لن تكون أبدًا بالوتيرة نفسها في حالة ما لو كان قد فاز مرشح المعارضة، ذلك أنه من المنتظر أن تشهد السياسة الخارجية التركية تحولات مهمة في المنطقة، بل وفي العالم خلال الأعوام الخمسة المقبلة، تتواءم مع حجم ما راهن عليه المواطن التركي والعربي معًا مع استمرار أردوغان في السلطة، وهو الأمر الأهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس